إن شرح قصيدة مصر تتحدث عن نفسها يُعد أمرًا استثنائيًا، ليس فقط لأن لهذه القصيدة مكانة كبيرة في قلب الشعب المصري وقلوب أبناء العالم العربي بأكمله، بل لأنها تُحفة فنية مُكتملة الأركان جمعت بين الصدق والإخلاص والوطنية والبراعة الشعرية الفائقة في آنٍ واحد، وهذا ما سوف نؤكده بالتفصيل من خلال سرد شرحها بالكامل عبر الواقع العربي.
شرح قصيدة مصر تتحدث عن نفسها
قصيدة مصر تتحدث عن نفسها تُعد واحدة من الروائع الوطنية الفنية الخالدة، خط أبياتها الجميلة شاعر النيل الراحل حافظ إبراهيم، ولقد ألقاها للمرة الأولى في عام ألف وتسعمائة وواحد وعشرين، وبالتحديد في حفل تكريم أُقيم لعدلي يكن باشا عقب عودته من أوروبا، بعدما قطع مفاوضات الاستقلال مع إنجلترا في نفس العام.
أول ما يجب توضيحُه في شرح قصيدة مصر تتحدث عن نفسها هو أنها قصيدة غرضها الرئيسي هو الافتخار بمجد مصر القومي الحديث والقديم، ويُعد هذا الغرض من أقدم الأغراض في علم الشعر العربي مُنذ أمدٍ بعيد.
إن شرح قصيدة مصر تتحدث عن نفسها يجب أن يكون تفصيليًا دون أن يخلو من الإيجاز والتبسيط، وهذا يتم من خلال تناول شرح القصيدة بشكل مُقسم كل مقطع على حدِة كما سنرى من خلال السطور القادمة:
1- شرح المقطع الأول
وَقَفَ الخَلقُ يَنظُرونَ جَميعًا
كَيفَ أَبني قَواعِدَ المَجدِ وَحدي
وَبُناةُ الأَهرامِ في سالِفِ الدَه
رِ كَفَوني الكَلامَ عِندَ التَحَدّي
أَنا تاجُ العَلاءِ في مَفرِقِ الشَر
قِ وَدُرّاتُهُ فَرائِدُ عِقدي
أَيُّ شَيءٍ في الغَربِ قَد بَهَرَ النا
سَ جَمالًا وَلَم يَكُن مِنهُ عِندي
فَتُرابي تِبرٌ وَنَهري فُراتٌ
وَسَمائي مَصقولَةٌ كَالفِرِندِ
أَينَما سِرتَ جَدوَلٌ عِندَ كَرمٍ
عِندَ زَهرٍ مُدَنَّرٍ عِندَ رَندِ
وَرِجالي لَو أَنصَفوهُم لَسادوا
مِن كُهولٍ مِلءِ العُيونِ وَمُردِ
لَو أَصابوا لَهُم مَجالًا لَأَبدَوا
مُعجِزاتِ الذَكاءِ في كُلِّ قَصدِ
إِنَّهُم كَالظُبا أَلَحَّ عَلَيها
صَدَأُ الدَهرِ مِن ثَواءِ وَغِمدِ
فَإِذا صَيقَلُ القَضاءِ جَلاها
كُنَّ كَالمَوتِ ما لَهُ مِن مَرَدِّ
هُنا يقول حافظ إبراهيم متقمصًا شخصية مصر مُجسدًا إياها في كيان إنساني يتحدث عن نفسه بكُل فخر وعزة وكبرياء، تقول مصر الإنسانة هُنا إن كُل الناس وقفوا أمامها في دهشة مُتسائلين كيف تمكنت من الصمود والبقاء والخلود لكل تلك القرون شامخة مرفوعة الرأس، بالرغم مما مر عليها من صِعاب وأزمات ضارية كالاحتلال.
ترى مصر نفسها قلب العالم العربي ودرته المصقولة وهي مركز الشرق، وسائر بلاد الوطن العربي شبهت ذاتها بالدرر المرصوصة، وتستدل مصر بعظمة بناء الأهرامات على صحة ما تدعيه من عزة وعظمة ومنعة، فببراعتها وشموخها لا يمكن أن تصفها كلماتنا العادية مُطلقًا.
لم تنكر مصر وهي تتحدث عن نفسها فضل أبنائها ورجالها الذين لم يأتِ العالم ولا التاريخ بمثلهم ماضٍ خلا أو في مستقبل مُقبلٍ، وتشير إلى كل ما أبهر الناس في الغرب الأوروبي مؤكدة في ثقة ويقين أن أقل شيء فيها يساوي ما عندهم أضعافًا مُضاعفة، مُشبهة تراب أرضها بفتات الذهب الحر وسماؤها كبريق ولمعان السيف المصقول.
كما تؤكد مصر على أن المجال إذا ما أُتيح لرجالها، لسادوا هذا العالم إلى المجد والرفعة، فإن فيهم من الذكاء والاجتهاد والقوة والطاقة ما لم يوجد في إنسان البتة، حتى وإن كان المصري كهلًا فيكفي ضياء القوة الذي يشع من عيونه ويكفي لقهر ألف عدو.
اقرأ أيضًا: شرح قصيدة حسان بن ثابت في رثاء الرسول
2- شرح المقطع الثاني
أَنا إِن قَدَّرَ الإِلَهُ مَماتي
لا تَرى الشَرقَ يَرفَعُ الرَأسَ بَعدي
ما رَماني رامٍ وَراحَ سَليمًا
مِن قَديمٍ عِنايَةُ اللَهُ جُندي
كَم بَغَت دَولَةٌ عَلَيَّ وَجارَت
ثُمَّ زالَت وَتِلكَ عُقبى التَعَدّي
إِنَّني حُرَّةٌ كَسَرتُ قُيودي
رَغمَ رُقبى العِدا وَقَطَّعتُ قِدّي
وَتَماثَلتُ لِلشِفاءِ وَقَد دا
نَيتُ حَيني وَهَيَّأَ القَومُ لَحدي
قُل لِمَن أَنكَروا مَفاخِرَ قَومي
مِثلَ ما أَنكَروا مَآثِرَ وُلدي
هَل وَقَفتُم بِقِمَّةِ الهَرَمِ الأَك
بَرِ يَومًا فَرَيتُمُ بَعضَ جُهدي
هَل رَأَيتُم تِلكَ النُقوشَ اللَواتي
أَعَجَزَت طَوقَ صَنعَةِ المُتَحَدّي
حالَ لَونُ النَهارِ مِن قِدَمِ العَه
دِ وَما مَسَّ لَونَها طولُ عَهدِ
هَل فَهِمتُم أَسرارَ ما كانَ عِندي
مِن عُلومٍ مَخبوءَةٍ طَيَّ بَردي
ذاكَ فَنُّ التَحنيطِ قَد غَلَبَ الدَه
رَ وَأَبلى البِلى وَأَعجَزَ نِدّي
قَد عَقَدتُ العُهودَ مِن عَهدِ فِرعَو
نَ فَفي مِصرَ كانَ أَوَّلُ عَقدِ
بالرغم من جمال هذا المقطع في شرح قصيدة مصر تتحدث عن نفسها، إلا أن شاعر النيل لم يسلم من الانتقاد اللاذع بسبب أول بيت فيه، فلقد عابوا عليه قوله: “أنا إن قدر الإله مماتي لا ترى الشرق يرفع الرأس بعدي”، وذلك لأن مصر خالدة مُنذ بدء الخليقة وستبقى أبد الدهر كذلك، لا يغيب لها قمر ولا تغرب لها شمس مهما كانت الظروف قاسية.
ثم تُتابع مصر في حديثها عن نفسها مُشيرة إلى أن مصير أي عدو وطئت قدماه أراضيها، إلا وكان الهلاك لا محالة، وبالفعل كان حافظ إبراهيم هُنا دقيق للغاية في وصفه، والدليل على ذلك أن القارئ إذا ما راجع تاريخ مصر منذ العصور الأولى وحتى الآن، لوجد أن مصير كُل حضارة اعتدت على حضارة مصر هو الزوال.
كُل أُمة اعتدت على مصر تقريبًا لم يعد لها وجود، ثم تستطرد قائلة في حديثها عن نفسها إنهم مهما أنكروا فضل أبنائها على العالم بأسره تقف هي على قمة الهرم الأكبر ليروا جزءً يكاد لا يُذكر من عظمتها وجُهدها على مر العصور.
تُشير مصر إلى العلوم والفنون التي تميزت وعُرفت بها منذ بدء الخليقة ولا تزال بالرغم من التقدُم العلمي والتكنولوجي للغرب مجهولة ومحيرة ويقفون عندها مكتوفي الأيدي، وضربت المثل بفن التحنيط الذي لا يزال حتى الآن لُغزًا مُحيرًا لعلم المصريات وعلماء الطب والكيمياء في العالم بأسره.
اقرأ أيضًا: شعر اعتذار للحبيب بالعامية
3- شرح المقطع الثالث
إِنَّ مَجدي في الأولَياتِ عَريقٌ
مَن لَهُ مِثلَ أولَياتي وَمَجدي
أَنا أُمُّ التَشريعِ قَد أَخَذَ الرو
مانُ عَنّي الأُصولَ في كُلِّ حَدِّ
وَرَصَدتُ النُجومَ مُنذُ أَضاءَت
في سَماءِ الدُجى فَأَحكَمتُ رَصدي
وَشَدا بَنتَئورَ فَوقَ رُبوعي
قَبلَ عَهدِ اليونانِ أَو عَهدِ نَجدِ
وَقَديمًا بَنى الأَساطيلَ قَومي
فَفَرَقنَ البِحارَ يَحمِلنَ بَندي
قَبلَ أُسطولِ نِلسُنٍ كانَ أُسطو
لي سَرِيًّا وَطالِعي غَيرَ نَكدِ
فَسَلوا البَحرَ عَن بَلاءِ سَفيني
وَسَلوا البَرَّ عَن مَواقِعِ جُردي
أَتُراني وَقَد طَوَيتُ حَياتي
في مِراسٍ لَم أَبلُغِ اليَومَ رُشدي
أَيُّ شَعبٍ أَحَقُّ مِنّي بِعَيشٍ
وارِفِ الظِلِّ أَخضَرِ اللَونِ رَغدِ
أَمِنَ العَدلِ أَنَّهُم يَرِدونَ ال
ماءَ صَفوًا وَأَن يُكَدَّرَ وِردي
أَمِنَ الحَقِّ أَنَّهُم يُطلِقونَ ال
أُسدَ مِنهُم وَأَن تُقَيَّدَ أُسدي
نِصفُ قَرنٍ إِلّا قَليلًا أُعاني
ما يُعاني هَوانَهُ كُلُّ عَبدِ
نَظَرَ اللَهُ لي فَأَرشَدَ أَبنا
ئي فَشَدّوا إِلى العُلا أَيَّ شَدِّ
إِنَّما الحَقُّ قُوَّةٌ مِن قُوى الدَي
يانِ أَمضى مِن كُلِّ أَبيَضَ هِندي
قَد وَعَدتُ العُلا بِكُلِّ أَبِيٍّ
مِن رِجالي فَأَنجِزوا اليَومَ وَعدي
نُلاحظ في شرح قصيدة مصر تتحدث عن نفسها أن الشاعر حينما جعل من مصر شخصية قائمة بحد ذاتها وتتحدث عن أمجادها، سار على تسلسل زمني يبدأ منذ العصور الأولى لمصر ووجودها في التاريخ، ويتابع ويستمر في تدوير عجلة الزمن حتى يصل من القديم إلى الحديث فيما يخص إنجازات وعظمة مصر وحضارتها.
في هذا بُرهان على دراية الشاعر بتاريخ أمته وأن ما خطه من أبيات ليس مُجرد كلمات تُكتب على ورق، بل هو تمعُن وبحث عميق في تاريخ بلاده حتى عندما يتكلم يكون كلامه مبني على حقائق مثبتة لا يمكن لأحد إنكارها.
تستمر مصر في حديثها عن نفسها وتستعرض أمجادها في الماضي السحيق، التي مر عليها الدهر ولم يأتِ أحد بمثلها حتى عصرنا الحالي، ونُلاحظ في آخر خمسة أبيات أن حافظ إبراهيم تناول بشكل مباشر الهدف الرئيسي من كتابة القصيدة من الأساس وهو ما سلف وذكرناه في البداية.
ثم تُخاطب مصر أبنائها وتشحذ عزيمتهم بقولها إنها وعِدت بمستقبل باهر لها اعتمادًا عليهم، ولقد أقسمت بحرية وعزة كل أبىَّ من رجالها وعليهم ألا يخذلوها وأن يوفوا بوعدها هذا، فلا يوجد بلد أو أمة تستحق العيش في رغد وعزة ورفعة وشرف وترف بقدر ما تستحق مصر وفاءً لها ولِما قدمته من تضحيات حتى تبقى صامدة حتى الساعة.
اقرأ أيضًا: شعر جاهلي عن الحب من طرف واحد
4- شرح المقطع الرابع
أَمهِروها بِالروحِ فَهيَ عَروسٌ
تَسنَأُ المَهرَ مِن عُروضٍ وَنَقدِ
وَرِدوا بي مَناهِلَ العِزِّ حَتّى
يَخطُبَ النَجمُ في المَجَرَّةِ وُدّي
وَاِرفَعوا دَولَتي عَلى العِلمِ وَالأَخ
لاقِ فَالعِلمُ وَحدَهُ لَيسَ يُجدي
وَتَواصَوا بِالصَبرِ فَالصَبرُ إِن فا
رَقَ قَومًا فَما لَهُ مِن مَسَدِّ
خُلُقُ الصَبرِ وَحدَهُ نَصَرَ القَو
مَ وَأَغنى عَنِ اِختِراعٍ وَعَدِّ
شَهِدوا حَومَةَ الوَغى بِنُفوسٍ
صابِراتٍ وَأَوجُهٍ غَيرِ رُبدِ
فَمَحا الصَبرُ آيَةَ العِلمِ في الحَر
بِ وَأَنحى عَلى القَوِيِّ الأَشَدِّ
إِنَّ في الغَربِ أَعيُنًا راصِداتٍ
كَحَلَتها الأَطماعُ فيكُم بِسُهدِ
فَوقَها مِجهَرٌ يُريها خَفايا
كَم وَيَطوي شُعاعُهُ كُلَّ بُعدِ
فَاِتَّقوها بِجُنَّةٍ مِن وِئامٍ
غَيرِ رَثِّ العُرا وَسَعيٍ وَكَدِّ
وَاِصفَحوا عَن هَناتِ مَن كانَ مِنكُم
رُبَّ هافٍ هَفا عَلى غَيرِ عَمدِ
نَحنُ نَجتازُ مَوقِفًا تَعثُرُ الآ
راءُ فيهِ وَعَثرَةُ الرَأيِ تُردي
وَنُعيرُ الأَهواءَ حَربًا عَوانًا
مِن خِلافٍ وَالخُلفُ كَالسِلِّ يُعدي
وَنُثيرُ الفَوضى عَلى جانِبَيهِ
فَيُعيدُ الجَهولُ فيها وَيُبدي
وَيَظُنُّ الغَوِيُّ أَن لا نِظامٌ
وَيَقولُ القَوِيُّ قَد جَدَّ جِدّي
فَقِفوا فيهِ وَقفَةَ الحَزمِ وَاِرموا
جانِبَيهِ بِعَزمَةِ المُستَعِدِّ
إِنَّنا عِندَ فَجرِ لَيلٍ طَويلٍ
قَد قَطَعناهُ بَينَ سُهدٍ وَوَجدِ
غَمَرَتنا سودُ الأَهاويلِ فيهِ
وَالأَمانِيُّ بَينَ جَزرٍ وَمَدِّ
وَتَجَلّى ضِياؤُهُ بَعدَ لَأيٍ
وَهوَ رَمزٌ لِعَهدِيَ المُستَرَدِّ
فَاِستَبينوا قَصدَ السَبيلِ وَجِدّوا
فَالمَعالي مَخطوبَةٌ لِلمُجِدِّ
تصف مصر نفسها بالعروس الجميلة التي تستحق أن يُفتدى بالروح من أجل الحصول عليها، وتُناشد أبنائها أن يعيدوا إليها أمجادها الخوالي لكي تقهر عداها، وتتمكن من الصمود أمام الاحتلال الذي استنزفها لأعوامٍ طوال، وهذا أيضًا ضمن الهدف الرئيسي من شرح قصيدة مصر تتحدث عن نفسها.
التي كانت آنذاك تواجه الاحتلال الإنجليزي الذي مكث فيها أربعة وسبعين عامًا من الظلم والظلام، فتُطالب من أولادها المناضلين المتحدثين باسمها والمنادين بحقها في كل مكان بالعالم، أن يظلوا صامدين، صابرين، ومُجاهدين حتى يردوا إليها حُريتها المسلوبة من قِبل وحش الاستعمار الكاسر.
تدل هذه الأبيات الجميلة على أن مصر بلد سلم وأمن لم تدعُ يومًا للحرب أو الفتك والعنف، وما صبرت على العدوان إلا حقنًا لدماء أبنائها وخوفًا عليهم من أسنة سلاح العدو وليس لضعف منها، ولكنها لا تزال قوية عزيزة أبية إذا ما أرادت أن تدحض عن نفسها العدوان، لأحالت نور الليالي ظلامًا دامسًا في أعين محتلها.
في النهاية تقول مصر لشعبها مشجعة إياهم على مواصلة السير في درب الحرية من قيد الاستعمار، أن الانتصار ليس أمرًا صعبًا بالنسبة إليهم فلطالما انتصروا على مر الزمان، ولا يوجد رمز آخر لكيان مصر وأبنائها غير الحرية ولا يليق بها شعار أو رمز آخر، ولا خيار أمامهم سوى كسر القيد والمقاومة الشرسة حتى تلبس مصر تاج حريتها فعليًا من جديد.
لقد أثر شرح قصيدة مصر تتحدث عن نفسها في نفس صفوف الشعب المصري بكل فئاته حينما أنشدتها سيدة الغناء العربي “أم كلثوم” ولحنها الموسيقار الراحل “رياض السنباطي”، فكانت بمثابة دينامو حرك أبناء الوطن للمُطالبة بالحرية.