بقلم: حنان بدران
حينما ابتُلى سيدنا يعقوب عليه السلام ذلك الإبتلاء العظيم بفقد ولده المحبب لقلبه سيدنا يوسف عليه السلام ما كان منه إلا الصبر، لكنه لم يكن ذلك الصبر الذى نعرفه ،وإنما كان صبرًا من نوعٍ خاصٍ ، حيث ردد عليه السلام فصبرجميل والله المستعان على ما تصفون )… ويتكرر الإبتلاء للمرة الثانية حينما يفقد ابنه الأصغر( بنيامين ) ،فلا يجد فى قلبه إلا التشبث بهذا الصبر الجميل المحمل بالأمل : ( فصبر جميل عسى الله أن يأتينى بهم جميعًا) … وها هى السيدة عائشة رضى الله عنها تستعيرذلك الصبر الجميل حين اتُهمت فى أشد ما يمكن أن تُتهم به امرأة وهوعِرضها، فما بال ذلك وهى أم المؤمنين زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ،ولكن ما كان ردها إلا أن قالت بذلك القلب المتعلق بخالقه :(لا أقول إلا كما قال يعقوب صبر جميل والله المستعان ) … فأى صبر هذا الذى يزين قلوب هؤلاء الصابرين ؟ و كيف يحتويها فى أشد المحن وأقساها فيجعل الألسنة تقطر بأعذب الكلمات التى تدل على صفاء اليقين بالله سبحانه وتعالى؟؟ انه إحساس المؤمن بربه .إحساس غرس فيه أصحابه بذور المحبة ، فأثمرت زهور اليقين وحين تم حصادها فى قلوب صادقة تعطرت الزهوربعبير تلك القلوب ، فراح شذاها يسرى فى كل نبضة من نبضاتهم ، فاصبح الجمال سَمْتهم واستحال الصبر لديهم الى ذلك الصبر الجميل) … وحين أكرم الله تعالى عبده سيدنا يعقوب عليه السلام وقَّرَّعينيه برؤية ولديه الحبيبن ، راحت زهور اليقين تتهلل فرحًا فى هذا القلب الذى لم يضرب مثلًا رائعًا فى الصبر الجميل فحسب وإنما أيضا فى التسامح مع من أساءوا إليه، بل وكانوا سببًا فى حزن طال به سنوات كثيرة حُرٍمت عينيه فيها النور وحُرِم قلبه قرب ولديه .. .ولم يتوقف شذى العبير عند خلق التسامح لمن أساءوا إليه وإنما دعته أيضا أن يدعو لهم فكانت إجابته على طلبهم: يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين. قال سوف استغفر لكم ربى إنه هو الغفور الرحيم) ولِمَ العجب ، فصاحب المحنة بل المحن التى تنقَّل فيها من محنة شديدة إلى محنة أشد ما كان منه إلا أن تسامح مع إخوته الذين تركوه يواجه مصيرًا مجهولًا دون شفقة ، نجده يدعو لهم بمجرد إعترافهم بذنبهم وكأن احترامه لهم وإشفاقه عليهم فَرَضَا عليه ألا يتركهم يصلوا إلى مرحلة الاعتذار… (قالوا تاالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين، قال لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين )… وها هى براءة أم المؤمنين تظهر من فوق سبع سماوات ، فلم تعاتب ولم تخاصم وهى القوية فى موقفها لكنها أبدًا لم تخرج عن ذلك الجو الإيماني الذى نسجت خيوطه بذلك الصبر الجميل ، فانتقل قلبها الصابر المحتسب كالفراشة من زهرة الصبر عند المحنة إلى زهرة الحمد عند النصر … وهذا هو أباها أبو بكر الصديق رضى الله عنه وأرضاه، والذى اعتصره الألم طيلة هذه المحنة ، لكن ما كان منه إلا ذلك الصمت المحمل بالصبرالجميل .. وحين أراد الله النصر لعباده الصابرين كان لابد أن يكون للأب وقفة غير عادية مع ذلك الشخص الذى أطلق هذه الشائعة وقد كان خروج الصديق رضى الله عنه إلى الناس ليعلن براءة ابنته ولينتقم ممن أساء إليها هو التصرف الطبيعى والوحيد لأى شخص فى مثل هذا الموقف ،ولكن لم يكن أبا بكر أى شخص ،هو من شاعت نبضات قلبه طيبة لم يضاهيه فيها أحد، وكيف لا وهو رفيق الحبيب صلى الله عليه وسلم وخليله .. لذلك ما فكر فيه أبو بكر هوأن يقطع مساعدته المالية التى كان يساعد بها هذا الرجل الذى كان فقيرا ويمت له بصلة رحم .. هكذا قلبه ..قلب رقيق عاش فى رفقة الحبيب .طهره الله من كل حقد وكراهية .قلب يحبه الله.. ولكن … أراد الله عز وجل منه المزيد ،فأنزل فى كتابه بعد آيات البراءة آيات طالب فيها الصديق أن يعفو عن ذلك الرجل بل ويستمرفى معونته له فخاطبه بأسلوب الرب المحب لعبده واصفًا إياه فيها بصاحب الفضل واعدًا بالمغفرة : (ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم ..) ولم يملك صاحب القلب الرقيق بعد هذا الخطاب من رب العزة إلا السمع والطاعة دون تردد، فأزال الغطاء عن عطر الخير والحب بداخله حتى فاح منها أريج العفو فعفا وصفح واستمر فى معونته له لم يقطعها. ******** هناك قلوب عرفت الله فأحبته ، صفت نفوسها ، فالتمست الأعذار وعفت عمن أساء، وتلك قلوب يحبها الله .. وهناك قلوب عرفت العفو لكنها زادت عليه بالدعاء للمسيئين ومعونتهم وكأنهم اقرب المقربين وتلك قلوب يريدها الله … فإذا كان من الصعوبة أن نصل بقلوبنا إلى ما يريده الله فليس من المستحيل أن نحاول الوصول بها إلى ما يحبه الله ..