كان علىّ اليوم ، أن أكون بصحبته ، بعد محادثته بالأمس ؛ لأقف على سر هذا الإلحاح ، الذي بدا في أنفاسه المتلاحقة ، و هذا الصراخ المفعم بالسخرية ، و عدم الاكتراث .
الفكرة كانت مجنونة ، إلي حد بعيد ، وأسلوب تناولها ، لا أقول كان ملائما ، بل أقول ، هو الجنون بعينه ، مما جعلني في حالة ارتباك .عين عليه محاصرة ، وعين تتابع ما تعرض تلك الشاشة ، نصف عقل ، والنصف الآخر داخل غابة كثيفة ، لأشجار تنهار وتتفتت من تلقاء نفسها. أنفاس تختلط ، وأحلام خانها أصحابها ، تتبادل المواقع و الألوان .. و الحميمية أيضا .
كأنني أعيش كابوسا . هذا المزج ، والتلاعب بالكائنات ، ما بين التجسيد الحي، والتجسيد الممتنع بالعرائس ، و الدمى ، حتى اختلطت برأسي الأمور ، بين نهار و ليل ، شمس و قمر ، حقيقة و خيال .
: ” عن أي شيء تبحث ؟”.
قهقه بقوة ؛ فاحمر أنفه ، وهطلت عيناه ، ثم حدق الصورة بغيظ عجيب ، تخلص منه فورا :”ربما لا شيء “.
أتابع من ينقر نافذة عدة نقرات ، ثم يستعين بآلة موسيقية ، و يواصل النقر . تفتح النافذة على وجه دمية ، لم تكن دمية بالداخل ، بل كائنا من لحم و دم ، بين أحضان رجل ، ربما الزوج :” أهو العبث ؟!”.
وثب بغضب ، بأنفاس متوهجة ، صدر انفصل عنه ، و تعلق بمسمار على الحائط : ” لم تحاصرني بأسئلتك ، أليس في الصورة الكفاية ؟ “.
: ” لم يعد لي وقت ، الموت يحاصرني ، كما قال الأطباء .. لم جعلتني أحبك .. لم حاصرتني في كل مكان ، حتى أقنعت نفسي أنك تحبينني ؟!”.
: ” و أنا أحبك .. أعشقك و أعشق صوتك .. هيا الآن ، قبل أن تتخلى عن النائم أحلامه “.
و أغلقت الدمية النافذة ، و هي تغني أغنية سريالية الصوت و المعنى ، كصرخة نشوة ، أو لحظة شبقية .
: ” وما أمر الدميتين في الخارج ، على يمين و شمال العازف ، لم أحاط الظلام بنصف وجه واحدة دون الثانية ، وأكثرت من الزوم و الكلوز على نصف الوجه دون الآخر ؟!”.
تحاشى نظراتي ، و افتعل الانشغال ، كأنه منفصل عني ، و لكن :” أنت لم تر جيدا ؛ لنعد إلي التتر، كل ما عليك مزيد من التركيز .. هييه اتفقنا ؟!”.
تنقل بجسد متوتر ، وملامح وجهه تتلون ، ثم تعود لطبيعتها .. أحسست قلقا حادا ، و لا أدرى كيف واتتني فكرة ، أنني لم أكن خارج الدائرة !
كان التتر يتحرك على خلفية ، لم تنفصل عن المطروح ، بل كانت تقدم عالما شاسعا ، يكتنفه الضباب ، يمتلك من الأقنعة ، مالا طاقة لأحد بارتكابها ، و كل قناع بلون ، و صوت مختلف بين الجمال و القبح ، الرشيق و الباهت المترهل ، ثم جعلها دمى تحلق ، تتباعد و تتجاذب ،و تغير مواقعها . ثم دنت الكاميرا أكثر من الملامح ؛ لتؤكد أن فعلا ما يتم ، و ليس مجرد استعراض كرتوني ، فثمة علاقات ، بين جنسين ، صغار و كبار ، شيوخ وعجائز ،صبية و بنات . ثم يحدث زوم ، يلم كل الدمى ، ويرجها كحبات نرد ، ثم يلقي بها ، فتغير مواقعها . لا يخلو الأمر من مواقف غرامية حميمة ، وأخرى جنسية فاضحة ، و أيضا مواقف رومانسية . وقبل أن يختتم التتر ، تصبح نقطة ، فحبة نرد ، ثم تلقى ، و تفرش الشاشة ، بتبديل المواقف ، و الأشكال ، و الدمى .
: ” ما يريد تصديره هذا المجنون ، و لم ذهب إلي شرح ما عرض بالتتر ، لم لم يكتف ؟
تناهت إلي أذني أصوات طرقات . هب من جلسته ، أوقف الجهاز ، و اتجه حزينا إلي النافذة ، فتحها ، فكشف عن وجه دمية ،كانت هي نفسها ، من كانت مع العازف .
فركت عيني ، قفزت واقفا .. أتأمل الغرفة ، وأتحسس نفسي :” غصبت على ذلك ، لم لا تنس ، هذا لا يعني شيئا “.
فجأة علت ذراعاه ، و أطبقتا على الهواء ، ثم علت ضحكات و صرخات ، ترصع السماء بنجوم ألوانها ، أنفاسها ، حتى تختفي . وهو يكاد يقعي ، يقفز من النافذة ملاحقها ، لكن أعجزه أنه لم يكن دمية ، في تلك اللحظة !
أسرعت هربا ، بعقل شرد بعيدا ، في ترحال مر ، و أنا أتحسس نصف الوجه الذي كشفت عنه الكاميرا ، و أيضا النصف الآخر للحُمَى ، و الدمية التي لم أكنها يوما .. و نثرت ما أحمل للريح ، وبصقت لعنتي !