طبقا لما ذكره”صدى البلد” آباء وأمهات غادرت قلوبهم الرحمة، فباتت كالحجارة أو أشد قسوة، وماتت ضمائرهم، فأصبح فى عرفهم كل شىء مباحا، التضحية بفلذات أكبادهم وتقديمهم كقرابين لشهواتهم ونزواتهم، وبيع أجسادهم إذا لزم الأمر، وتركهم بلا مال يغنيهم عن سؤال الناس ليبقوا بما يلقوه لهم على قيد الحياة والخلاص منهم إذا ضاق بهم الحال غير مبالين بتوسلاتهم وصرخاتهم البريئة، خلال السطور التالية سنسرد قصص بعض من تلك النماذج من واقع دفاتر وسجلات محاكم الأسرة.
كاميرا مراقبة
فى ركن منزوٍ بمحكمة الأسرة بالقاهرة الجديدة، وعلى بعد أمتار من قاعة الجلسات، جلست الزوجة الشابة فى حلة أنيقة، تدارى عينين أذهب الحزن بريقهما بنظارة سوداء، تتصفح من خلف عدساتها الداكنة طلب زوجها ضم ابنتها الوحيدة إلى أمه ودفعه بعدم أمانتها على الصغيرة، وتقلب كفيها على حال رجل يدعى خوفه على ابنته ومستقبلها وينتهك جسدها، بحسب روايتها.
تقول الزوجة فى بداية روايتها: “كانت بداية تعارفى بزوجى فى إحدى المناسبات، بدا لى شخصا دمث الخلق، لطيفا، حسن الخلقة، وعندما أبدى رغبته فى الارتباط بى وافقت عليه دون تردد، ولما لا، ففارق السنوات بيننا مناسب، والعريس يشغل منصبا مرموقا بأحد البنوك، وسمعته طيبة، لكن بعد الزواج ظهر وجه آخر لزوجى يشوبه القبح، وبدأ يطلب منى أمورا لا يرضى عنها الرب، فى البداية كنت أرفض طلباته، لكن تحت تأثير إلحاحه خضعت له، رغم معاناتى نفسيا وجسديا، ولم أكن أعلم أن هذا الرضوخ سيدمر حياتى وحياة ابنتى”.
وبنبرة منكسرة تسرد تفاصيل الليلة التى قصمت ظهر زواجها: “الحكاية بدأت عندما اشتكت ابنتى ذات الثمانية سنوات من آلام مبرحة بجسدها فاصطحبتها إلى الطبيب المختص ليؤكد لى أن هناك من عاشرها كالحيوانات، نزلت كلماته على كالصاعقة، وكاد يغشى على من هول ما سمعت، وبدأت التساؤلات تعصف بذهنى، من يا ترى فعل هذا بطفلتى الوحيدة، أقريب هو أم غريب؟ ومتى حدث ذلك وكيف وأين؟! وعندما سألت الصغيرة من فعل بها ذلك، أقسمت لى أنها لا تعرف الشخص الذى عبث بجسدها، فقلت لنفسى إنها ربما تكون خائفة من البوح باسم هاتك عرضها، وبدأت أفكر كيف أصل لهذا المجرم، فهدانى تفكيرى إلى زرع كاميرات بالبيت لأراقب كل من يتعامل مع ابنتى فى غيابى، ولم أطلع أحدا على ما فعلت حتى زوجى، لتمر الأيام، وينكشف المستور، ويسقط الفاعل، والمفاجأة أن زوجى كان هو الفاعل، وحتى لا ينفضح أمره كان يضع للصغيرة أقراصا منومة فى كوب العصير ثم ينقض عليها، لا أعرف أى نوع من الآباء هذا! كيف طاوعه قلبه وضميره أن يفعل ذلك بفلذة كبده”.
تصمت الزوجة فجأة وبصوت مرتعش تنهى حديثها: “وبهدوء تركت البيت وعدت إلى منزل أهلى، ولم أفصح لأحد عما فعله زوجى بابنته حتى لم أواجهه بفعلته، وأقمت ضده دعوى خلع بعد إنهاء إجراءات تغيير ملتى، وبالفعل صدر الحكم لصالحى، ولينتقم منى أقام ضدى دعوى قضائية أمام محكمة الأسرة، وطالب فيها فيها بضم الصغيرة إلى والدته، وادعى أننى أمنعه من زيارتها وأننى غير أمينة عليها ولست متفرغة لرعايتها، حينها قررت أن أنفض عندى ثوب الصمت الذى تحليت به حفاظا على ابنتى، وقدمت للمحكمة نسخة من الفيديو الذى يظهر فيه زوجى وهو يعتدى على ابنته، وها أنا انتظر الفصل فى الدعوى”.
جعلتنى عاهرة
لساعات طويلة وقفت الزوجة الثلاثينية ملاصقة لباب كبير يفضى إلى قاعة جلسات بمحكمة الأسرة بزنانيرى، قابضة بيد مرتعشة على كوب من القهوة، تتصاعد أبخرته أمام عينيها المسكونة بالحزن والندم على حياة قضتها متنقلة بين أحضان راغبى المتعة، تبيع جسدها المفعم بالأنوثة مقابل بضعة جنيهات تقبض والدتها النصيب الأكبر منه، وبالجزء المتبقى تسدد نفقات البيت، فى انتظار بدء جلسة دعوى النفقة التى أقامتها ضد زوجها “س. م” الذى دفعها بعجزه وقلة حيلته إلى التضحية بشرفها، وفى النهاية تركها وحيدة تواجه شبح البقاء فى زنزانة مظلمة لمدة عامين ثمنا لجرائمه وديونه.
بندم تقول: “أمى باعت جسدى للرجال من عبيد الشهوات والملذات وقبضت ثمنه بدم بارد، ودفنتنى بيدها فى الوحل ووقفت تتلذذ مشهد احتضار شرفى، وكأنها أرادت أن يبقى الجميع مثلها محاطا بالخطيئة ، مازلت أتذكر اليوم الذى لجأت إليها فيه كى تساعدنى بعلاقاتها المتشعبة بأصحاب المصانع والمحال تجارية بحكم امتلاكها مصنعا صغيرا، فى إيجاد عمل لأنفق على البيت بعد كساد تجارة زوجى التى كانت تعتمد بشكل أساسى على شراء البضائع بسعر بخس وتخزينها ليبعها بأضعاف ثمنها، وتراكمت عليه الديون وإيصالات الأمانة، وبات مطاردا من الدائنين أينما ذهب، يومها كانت تجلس كعادتها محاطة بمجموعة من الفتيات الفقيرات لكنهن جميلات ومفعمات بالأنوثة والدلال فى أحد المقاهى، لم يكن مر على زواجى وقتها – بمن اختارته هي لى وأقنعتنى به رغم فارق السن الذى تجاوز الـ13 عاما – سوى تسعة أشهر”.
ترشف الزوجة الثلاثينية رشفة من كوب القهوة الساخن وتغمض عينيها وهى تسرد بداية سقوطها فى الوحل: “أمرت أمي إحدى فتياتها بأن تصحبنى معها فى عملها، وحسبما أفهمتنى أن مهمتى ستقتصر على الخدمة فى البيوت، تعجبت أنها قبلت أن أعمل خادمة، لكنى لم أتخيل أنها كانت تعد مشروعا لتحويلى إلى “عاهرة، وبالفعل ذهبت مع الفتاة دون تردد، وحصلت على 100 جنيه دون أن أتكبد أى عناء، بعدها بدأت الفتاة تصطحبنى معها إلى بيوت الرجال بأوامر من والدتى، ومرة تلو الأخرى وجدت نفسى أرتمى فى أحضانهم وأفعل مثلما تفعل زميلتي، وتبدل حالى بعد أول سقوط، وبت أكره جسدى وأنوثتى وأصاب بحالة هياج عصبى وغثيان كلما حاول زوجى الاقتراب منى، فكيف أفعل وأنا أحتقره، لأنه يعلم أننى أدنس عرضه وصامت، فلا يعقل أن ألقي بين يديه فى آخر كل ليلة ما بين “800 و900 جنيه” من مسح سلالم العمارات”.
تشيح الزوجة بوجهها بعيدا كى لا تلمح فى عين محدثها نظرة احتقار: “طلبت الطلاق منه أكثر من مرة، لكن والدتى كانت دائما ترفض بحجة أن بقائى على ذمته سيكف ألسنة الناس عنى، و”أهو ستار اتخفى خلفه”، حسب تعبيرها، ومرت الأيام والشهور وأنا أتنقل بين أحضان الرجال من مختلف الأعمار والجنسيات، هذا يهيننى وذلك يسبنى، وأمى كالعادة تقبض نسبة عن كل “مصلحة” ترسلنى إليها بدم بارد، ولم تعبأ يوما بتعبى، وأحيانا كانت ترغمنى على تناول مسكنات وأدوية حتى لا يضيع اليوم، أما زوجى فكان يحصل على الجزء المتبقى”.
تنهى الزوجة روايتها: “إلى أن اقتحمت مباحث الآداب أحد بيوت الدعارة التى كنت أتردد عليها، وأحمد الله أننى لم أكن موجودة فى تلك الليلة، لكننى كنت أتأهب للصعود، ظللت أنظر إليهم من بعيد وهم يحاولون ستر عوراتهم بالملاءات، ورجال الأمن يجرونهم وهم أنصاف عرايا أمام المارة، فقررت أن أتوب وأقسمت أنه لن يمسسنى رجل غريب بعد الآن، وطرقت أبواب محكمة الأسرة، لأتخلص من زوجى، خاصة بعد أن تركنى أسجن بسبب ديونه لأننى كنت الضامن له، وطالبته بنفقة للصغيرة”.
محاولة قتل
تشير عقارب الساعة إلى التاسعة صباحا، تتخطى “شادية” الزوجة الثلاثينية الباب الحديدى المفضى إلى الطابق الأول من المبنى القديم لمحكمة الأسرة بزنانيرى بخطوات مترددة وعين قلقة، متجاوزة موجات الزحام المتلاطمة وأجسام الحاضرين المتلاصقة كالبنيان المرصوص، وبعين متفحصة أخذت الزوجة الثلاثيينة تتنقل بجسدها المنهك بين مكاتب وأروقة المحكمة، بدت كالغارقة التى تبحث عن منقذ لها من خوفها بعدما قضت المحكمة لزوجها المدمن – حسب قولها- باستضافة أطفاله الثلاثة يوما فى الأسبوع، لتستقر فى النهاية أمام باب زجاجى مكتوب عليه “مكتب المساعدة القانونية”، لعلها تجد حلا “مجانيا” بعيدا عن أتعاب المحامين التى أثقلت عاتقها وعاتق أهلها الذين تكفلوا بالإنفاق عليها بعدما خصص رجلها كل دخله للسهرات الحمراء وشراء المخدرات، بحسبها.
وبكلمات تخرج من ثغرها ثقيلة، بدأت الزوجة الثلاثينية رواية تفاصيل حكايتها لـ”صدى البلد”: “كان زوجى مثالا للرجل المحب لبيته وزوجته، الغيور عليها من أنفاسها وأعين أقرب الناس إليها، والمخلص لها كإخلاص الثائر الحق لوطنه، كان يقتطع من زاده ليطعم أطفاله، ويضحى بمظهره فى مقابل أن يكسوهم بأفضل الثياب، حتى ترقى فى عمله، وذاق طعم المال، وتسلل أصدقاء السوء إليه، فسيطروا على عقله، وعلموه كيف يشد الأنفاس ويبتلع أقراص الترامادول المخدرة، ويقضى ليله يستنشق المساحيق البيضاء على مرأى ومسمع من صغاره دون حياء ويتنقل بين أحضان الساقطات والغانيات”.
تعتدل الزوجة فى جلستها وتغمض عينيها البائستين هى تواصل روايتها: “بعدها تحول زوجى إلى رجل قاسى القلب، لا يعبأ إلا بنفسه فقط، وبتوفير حاجاته من السم الأبيض والأقراص المخدرة، لا يقوى حتى على الحركة، وإن سار خطوة بدا كالذى يتخبط من المس، لا يفيق من تأثير المخدرات، ولا يستحى أن يتعاطاها فى حضرة زوجته، بل ويدعو أصدقاءه المدمنين ليستمتعوا بلحظات سعادتهم الزائفة فى منزله، وحينما كنت أعلن رفضى لممارسته، كان يوجه لى الصفعات واللكمات والركلات، ورغم ذلك تحمل وصبرت من أجل الصغار، فمن سيتحمل مسئولية تربية 3 أطفال، وخوفا من تحرش أحد المنتشين بى الذين كانوا يتجولون فى منزلى بحرية وكأنه طريق عام، أو تهجمهم على ورجلى غائب عن الوعى، بت أبات ليلى جالسة على حافة سريرى مرتدية عباءتى السوداء البالية وقابضة على أطرافها بقوة حتى ينصرفون”.
تختلط دموع الزوجة الثلاثينية بابتسامة حزينة تعلو ثغرها وهى تقول: “زاد زوجى فى طغيانه، وخصص كل راتبه لشراء المخدرات والسهرات الحمراء، تاركا بيتى خاليا من المال والطعام، لجأت لأهلى ليبقونى أنا وصغارى على قيد الحياة، حتى فاض بى الكيل، طلبت منه أن يتحمل مسئولياته كأب وزوج، ويرحمنى من أن أمد يدى للعالمين كى أنفق على البيت، فقال لى بنبرة متبجحة: “اخلعى البلاط وكليه إنتى وعيالك”، فقلت له: “لا هخلعك انت”، وبالفعل لجأت لمحكمة الأسرة وأقمت ضده دعوتى خلع ونفقة للصغار، جن جنونه واستعان ببلطجى يقيم فى نفس الحى لقتلى انتقاما منى لخلعه، ليس ذلك فحسب بل حاول الخلاص من أولاده بوضع أقراص مخدرة لهم فى شرابهم، وكل هذا كى لا يسدد النفقة المستحقة عليه لهم، ولولا ستر الله وإفراغ بطونهم أول بأول لأصبحوا أسماءً على شاهد قبر”.
تختتم الزوجة الثلاثينية حديثها: “حررت ضده محضرا رسميا فى قسم الشرطة واتهمته فيه بمحاولة قتلى أنا والصغار، فادعى أننى مجنونة وأعانى من هلاوس وتخيلات، وتم حفظ التحقيق لعدم كفاية الأدلة، ثم أقام ضدى دعوى رؤية للصغار ليكمل تعذيبى فى المحاكم، وطلب من القاضى أثناء نظر الدعوى إضافة طلب استضافة الأطفال، ورغم عدم وجود نص قانونى يبيح ذلك له، وعدم إقرارى بالموافقة على أن يستضيفهم فى بيته فى محضر الجلسات، استجابت له المحكمة، لا أعرف كيف؟! وكيف لى أن أترك البنتين مع رجل كهذا غادره عقله منذ سنوات بسبب المخدرات، ولا يعى ماذا يفعل”.