حرّيّة التّعبير.. مسألة ما فتئنا نناقشها قبل الثّورة وبعدها.. في الماضي، كنّا نطالب بها.. واليوم، بتنا نطالب بالحدّ منها!! يبدو الأمر في ظاهره غريبا ولكنّه في الحقيقة منطقيّ إلى أبعد الحدود.. مثال بسيط قد يلخّص المسألة ويوضّح الرّؤية.. تخيّلوا معي متسوّلا جائعا يدقّ باب داركم مُلتمسا منكم ما يسدّ رمقه.. سيأكل طبعا حتّى يشبع.. ولكن ماذا لو طلبتم منه الأكل بعد الشّبع؟ سيرفض ذلك قطعا وقد يردّ بعنف لو أجبرتموه على ذلك.. هذا ما يحصل لنا اليوم فعلا مع حرّيّة التّعبير.. لا يستطيع أحد منّا أن يُنكر أنّ الشّيء إذا بلغ حدّه انقلب إلى ضدّه.. قد تنقلب الصّراحة مثلا إذا بلغت حدّها إلى وقاحة، وقد تؤدّي كثرة الضّحك إلى انهمار الدّموع.. حتّى الكأس إذا ما امتلأت فالقطرة الإضافيّة تُفيضها.. وصدق المثل الشّعبي إذ قال “الزّيادة تُقتل المْريض”..
حديثي هنا موجّه خاصّة إلى المتشدّقين بحرّيّة التّعبير الّتي لا تعرف حدودا وإلى القائلين بأنّ وضع حدود للإبداع يعادل قتله.. وأتساءل في هذا الصّدد، هل ينطبق هذا المبدأ على كلّ مجالات الحرّيّة أم فقط على حرّيّة التّعبير؟ حسب معلوماتي المتواضعة فإنّ الحرّيّة لا تتجزّأ.. وإن كان الأمر كذلك فلْنُلغ إذن كلّ الضّوابط ونخضع لقانون الغاب.. فلْيقل الكلّ ما يشاء ولْيلبس الكلّ ما يشاء ولْيفعل الكلّ ما يشاء دون حساب أو عقاب أو قانون يخضع له الجميع.. فلْنعش الحرّيّة على أصولها.. أو بمعنى أصحّ فلْنعش الفوضى!
عند هذه العبارة سيتوقّف المتشدّقون بالحرّيّة اللاّمحدودة وسيصرخون.. “يكون كلّ النّاس أحرارا في حدود النّظام العامّ” (وكم تعجبني هذه الجملة).. إذن لا يمكنك سيّدي أن ترتكب الجرائم بدعوى الحرّيّة لأنّك بذلك تمسّ من النّظام العامّ.. لا يمكنك أن تتلفّظ بكلمات نابية في الشّارع لأنّ ذلك يمسّ من النّظام العامّ.. لا يمكنكِ يا سيّدتي ارتداء النّقاب لأنّ ذلك يمسّ من النّظام العامّ.. لا يمكنكِ أيضا التجوّل في الشّوارع بملابس سباحة لأنّ ذلك يخدش الحياء.. إذن فللحرّيّة حدود لا يمكن تجاوزها.. ولكن هل ينطبق هذا الحديث على حرّيّة التّعبير؟
هل يمكنني بدعوى حرّيّة التّعبير أن أشهّر بك في الصّحف والمجلاّت وأن أشتمك وأنعتك بأقبح الصّفات؟ ألا أقترف بذلك جريمة القذف والثّلب الّتي يعاقب عليها القانون؟ فهل حُرمتكَ يا سيّدي “الإنسان” أرفع من حُرمة الذّات الإلهية حتّى يدخل انتهاكها تحت طائلة القانون ويدخل انتهاك حُرمة الله في إطار حرّيّة التّعبير؟! “عليكِ البحث في سياق الحديث يا سيّدتي فمخرج الفيلم لم يقصد المساس بالمقدّسات والموضوع يختلف إن وُضع في إطاره..” سأجيب قطعا على هذه المهاترات..
ما رأيك لو غادرت ابنتك البيت يوما وتجوّلت في الشّارع بملابس سباحة؟ هذا لا يُعقل طبعا.. ولكن هل سيتغيّر موقفك من المسألة لو أخبرَتك بأنّها ارتدت تلك الملابس لأنّها كانت تنوي حضور حفل تنكّري اختارت فيه تمثيل دور حوّاء إبّان قطف التّفاحة من شجرة الجنّة؟! هذا هو السّياق الّذي تتحدّثون عنه.. الفعل في حدّ ذاته قبيح ولا سياق يبرّره..
ربّما كان موقف مناصري حرّيّة التّعبير اللاّمحدودة مبنيّا على تخوّف من تقييد مُجحف لها قد يُعيدنا إلى عصور الظّلام السّالبة لكلّ الحرّيّات وهو تخوّف منطقي خاصّة في فترة حسّاسة كالّتي تشهدها بلادنا اليوم وهي فرصة ربّما أتاحتها لنا من دون قصد تلك القناة “المبدعة” في إشاعة الفوضى وإثارة الفِتن.. أقول هي فرصة لوضع النّقاط على الأحرف ولتأطير هذه الحرّيّة الفائضة بكلّ المقاييس.. وأنا أعتمد هنا عبارة “تأطير” بدل “تقييد” أو “تحديد” التي تثير حفيظة مناصري هذه الحرّيّة المزعومة مع أنّ التّقييد لا يكون بالضّرورة سلبيا.. يكفي في هذا الصّدد أن نقول بألاّ تقديس إلاّ للمقدّسات.. فلْيعبّر كلّ كما يشاء ولْيتفنّن كلّ في إبداعه دون الوصول إلى الخطّ الأحمر الوحيد وهو ما نصطلح عليه كلّنا بمسلَّماتنا الدّينيّة.. وإلاّ فما فائدة التّنصيص على دين الدّولة صُلب الدّستور إن لم نُراعِ أضعف الإيمان في الدّفاع عن حقّنا في احترام هذا الدّين؟ أليس معتَقد الإنسان جزءًا من شخصيّته كالاسم والعائلة والجنسيّة وغيرها؟ فلِم يَفرض القانون احترام حقوق الإنسان بأكملها ويتقاعس عن ضمان احترام المشاعر الدّينيّة؟
إنّني في إطار حديثي عن مسّ فيلم “بيرسيبوليس” من مشاعر المؤمنين عموما والمسلمين خصوصا لا أدافع عن الذّات الإلهية إذ أنّني مؤمنة بأنّ الله جلّ وتعالى قادر على محاسبة كلّ المعتدين ومعاقبتهم عقابا لا يقدر عليه أحد.. ولكنّني أدافع عن حقّي في احترام المسلّمات الّتي أؤمن بها.. فما معنى أن يتمّ عرض فيلم تُنتهك فيه أبسط درجات الإيمان في قناة محسوبة على دولة ينصّ دستورها على الإسلام كدينِ أغلبيّة؟ هل يريد مناصرو حرّيّة التّعبير المطلقة أن تظفر تونس بلقب أوّل دولة مُتبنّية لحرّيّة التّعبير بلا حدود؟ إن كان الأمر كذلك على حساب مشاعر الشّعب فهو لا يدعو للافتخار.. وأنا أفضّل هنا لقب “الدّولة الرّجعيّة”!