أ ش أ
قال الإمام الأكبر الدكتور احمد الطيب شيخ الزهر الشريف أنه منذ ألف وثمانين وأربَعَمِائةِ عامٍ هجري، ظهر إلى الوجود نور أضاء العالم كله شرقًا وغربًا، ولايزال يضيئه، وسيظل كذلك إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.. ذلكم هو نور سَيِّد النَّاس محمدٍ، الذي أشرق على البشرية جمعاء، وكان مولده رحمة للعالمين، وبركةً على الإنسانية كلها، جاءها هاديًا ومنقذًا، بعد أن أشرفت على الزوال، وبعد أن بدا واضحًا أن الجنس البشري كله أوشك على العـودة إلى حالة من الهمجية، أصبحت معها «كل قبيلة وكل طائفة عدوًا لجارتها، لا يعرفون لهم نظامًا ولا يتبينون لهم قانونًا»([1]).
وأضاف الطيب في كلمته بالاحتفال بالمولد النبوي الشريف ان العالم فقد آنذاك نظام الدولة، كما فقد هَدْي الدين، واستبدل بكل ذلك حالة من الفوضى والضياعِ، وسيطرةِ القوة، واستباحة حرمات المستضعفين، والسخريةِ من كل عظيم وكبير ومقدس، وتحوَّلت الدعواتُ الدينية في تلكم العصور إلى دعوات قومية، ونعرات عرقية، تقوم على سُنَّة التفرقة، والتمييز في الدِّين وشرائعه بين شعب الله المختار، وبين باقي الأمم والأجناس الأخرى.
وأوضح أنه في هذا الوسط الموبوء بكل أمراض الحضارة وأدوائها وعللها، بُعث محمد، بدعوة إلهية، ورسالة حضارية طالت عنان السماء، وعمَّت أرجاء الكون، في زمن قياسي، ظل معقد دهشةٍ واستغرابٍ من كِبار عُلَمَاء التَّاريخ حتَّى يومنا هذا. فقد استطاع هذا النبي الكريم أن ينقل العالم كله، في فترة وجيزة، من حالة الموات والسكون والركود، إلى حالة الحياة والحركة والنهوض، ومن حالة الفوضى والاضطراب إلى حالة النظام والاستقرار، ولم يَنقُلِ العالَمَ هذه النقلةَ قبل محمد ولا بعده أحد من الأنبياء أو الرسل أو أصحابُ الدعوات أيًّا كانت دعواتهم([2]).
ويؤكد الطيب قوله “نحن بدورنا نَفهمُ ما يقوله عُلَمَاء التاريخ، انطلاقًا من النص القرآني الذي حدَّد الله فيه الهدف الأسمى من رسالة محمد، وحصرها في غاية واحدة، هي «الرحمةُ» بالكونِ كله، وانتشالُه من كل ما أوشك أن يقع فيه مِن فوضى وظلام وحيرة وضلال، فقــال مخاطبًا نَبيِّه: «وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ» {الأنبياء: 107}.”
والذين يفقهون أساليب القصر في بلاغة اللغة العربية، يعلمون من نَصِّ هذه الآية الكريمة، أن رسالته من ألفها إلى يائها تدور على محور الرحمة بالإنسان والارتفاق بالكون وصحبته والحنو عليه، وهذا ما أكده هو نفسه وهو ينادي الناس وبأسلوبِ القصر البلاغي أيضًا ويقول: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا رَحْمَةٌ مُهْدَاةٌ»([3])، وكان نعته الذي يُنعَت به من بين سائر الأنبياء «أنه نَبيّ الرحمة»([4])، إذ بسطت رحمته رداءها على الكون كله، ولم يُحرَم منها كائن حيّ أو غير حيّ.. وهذا ما تدل عليه كلمة «العالَمين» في الآية الكريمة، فإنها لم ترد بصيغة المفرد، بل وردت بصيغة الجمع لتنطبق على العوالم كلها: عالم الإنسان والحيوان والنبات والجماد، ثم جاءت سيرته تأكيدًا لسعة هذه الرحمة النبوية وشمولها: فأمَّا الإنسان فقد أعلن كرامته على الله، وتكريمه وتفضيله على باقي المخلوقات، وصدع في الناس في مجتمعات تقوم أنظمتها الاجتماعية على السخرة والرق والاستعباد بقوله تعالى: «وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا «{الإسراء: 70}.
كما أعلن حرمة الاعتداء على الإنسان وعلى دمه وماله وعرضه([5])، بل حرَّم مجرد تخويفه وترويعه، حتى لو كان ذلك على طريق المزاح، فقال رسول الله: «منْ أشارَ إلى أخيه بحديدةٍ، فإنَّ الملائكــةَ تلعنُهُ حتَّى يَدَعــهُ وإن كان أخــاه لأبيهِ وأُمِّهِ»([6])، وقال أيضًا: «لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُرَوِّعَ مُسْلِمًا»([7]).
وكان عطوفًا رحيمًا بأصحابه وبأعدائه على السَّواء، وكان هذا دأْبَه مع كل ضعيف، قريب له أو بعيد، تقول سيرته الشريفة إنَّه ما نهر خادمًا، ولا ضرب أحدًا، وأن أنسًا خدم رسول الله عشر سنين فما قال له: أُفٍّ قط، وَلا لشيء فعله لِمَ فعله؟ وَلا لشيء تركه لِمَ تركه؟ ([8]).
وكان يَهَش للأطفال ويضاحكهم، ويتألم لآلامهم ويُسرعُ في صلاته حين يسمع بكاءهم من خلفه، روى أنس عنه أنه قال: «إِنِّي لأَدْخُلُ فِي الصَّلاةِ وَأَنَا أُرِيدُ إِطَالَتَهَا، فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ، فَأَتَجَوَّزُ فِي صَلاتِي مِمَّا أَعْلَمُ مِنْ شِدَّةِ وَجْدِ أُمِّهِ مِنْ بُكَائِهِ»([9]) وكان يحمل حفيدته «أُمامة» بنتَ زينب ڤ على عاتقه الشريفِ وهو يصلي، فَإِذَا رَكَعَ وَضَعَهَا، وَإِذَا رَفَعَ مِنَ السُّجُودِ أَعَادَهَا ([10]).
وكان يطلب من أصحابه إذا صَلَّوا بالنَّاس أن يخفِّفوا في صلاتهم رحمةً بمن وراءهم من الضُّعفاء والمرضى وذوي الحاجات، وكان يقول: «لا تُنْزَعُ الرَّحْمَةُ إِلا مِنْ شَقِيٍّ» ([11]) و «لا يَرْحَمُ اللَّهُ مَنْ لا يَرْحَمُ النَّاسَ» ([12])، و «لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا وَيَعْرِفْ شَرَفَ كَبِيرِنَا» ([13]).
وكان يكره الغدر والخيانة ويمقت الغادرين والخائنين والفاجرين في خصوماتهم وقد نهى عن الغدر حَتَّى مع العدو، فكان إذا أمَّر أميرًا على الجيش يوصيه بتقوى الله في خاصته ومَن معه مِن المسلمين ويوصيه بمراعاة مبادئ الأخلاق في الحرب مع العدو، وهي مبادئ خلقية لم تُعرف لغير نبي الإسلام والمسلمين، كان يأمر قادة الجيش ويقول لهم: «لَا تَـغُـلُّــوا، وَلَا تَـغْــــدِرُوا، وَلَا تُمَـثِّـلُوا، وَلَا تَقْتُـلُوا وَلِيدًا…»([14]).
وعلى ذلك سار خلفاؤه من بعده، فأوصى أبو بكر الصديق ﭬ، جيش أسامة بقوله: «…لا تَخُونُوا وَلا تَغُلُّوا، وَلا تَغْدِرُوا وَلا تُمَثِّلُوا، وَلا تَقْتُلُوا طِفْلا صَغِيرًا، وَلا شَيْخًا كَبِيرًا وَلا امْرَأَةً، وَلا تَعْقِرُوا نَخْلا وَلا تُحَرِّقُوهُ، وَلا تَقْطَعُوا شَجَرَةً مُثْمِرَةً، وَلا تَذْبَحُوا شَاةً وَلا بَقَرَةً وَلا بَعِيرًا إِلا لِمَأْكَلَةٍ، وَسَوْفَ تَمُرُّونَ بِأَقْوَامٍ قَدْ فَرَّغُوا أَنْفُسَهُمْ للعبادة، فَدَعُوهُمْ وَمَا فَرَّغُوا أَنْفُسَهُمْ لَهُ…»([15]).
نعم ها هنا رحمة بالضعفاء والعُبَّاد والأطفال والشيوخ والنبات والحيوان، حتى لوكان كل ذلك في جيش العدو الذي يحمل السلاح في وجه المسلمين.
وقد بلغ رفقه بالحيوان أنه رأى مرَّة جملاً مرهَقًا، تذرف عيناه الدموع، فاستدعى صاحبه وقال له: «أفلا تتقي اللهَ في هذه البهيمة التي مَلَّكَكَ الله إياها؟ فإنه شكى إليَّ أنك تُجيعه وتُدئبه»([16]) أي تتعبه وتشق عليه، وأخبر «أنَّ الله غفرَ لِامْرَأَةٍ بَغِيٌّ مِنْ بَغَايَا بَنِي إِسْرَائِيلَ رأت كَلْبًا يُطِيفُ بِرَكِيَّةٍ (أي ببئر)، كَادَ يَقْتُلُهُ العَطَشُ، فَنَزَعَتْ مُوقَهَا (أي خفها) فَاسْتَقَتْ لَهُ بِهِ، فَسَقَتْهُ إِيَّاهُ، فَغُفِرَ لَهَا بِهِ»([17]). وقال أيضًا «دَخَلَت امْرَأَةٌ النَّارَ فِي هِرَّةٍ رَبَطَتْهَا، فَلَا هي أطْعمْتهَا، وَلَا هي أرسلتها تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الأَرْضِ حتى ماتت هزلاً أي: “هُزالاً “»([18]).
ولا ينبغي أن نستبعد على الأنبياء والمرسلين هذا التواصلَ الحيّ بينهم وبين الكائنات الأخرى من حيوان ونبات وجماد، فقد صح أنه أثبت علاقة مودة ومحبة بين جبل أُحد وبينه وصحابته في قوله: «أُحد جبل يحبنا ونحبه»([19])، وأصرح من ذلك قوله: «إِنِّي لَأَعْرِفُ حَجَرًا بِمَكَّةَ كَانَ يُسَلِّمُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُبْعَثَ إِنِّي لَأَعْرِفُهُ الْآنَ»([20]).
والحجةُ في كلِّ ذلك أن القرآن الكريم صريح في أن الأكوان لا موات فيها، لأن كل شيء فيها يسبح لله، والتسبيح لا يمكن أن يوصف به ميتٌ لا إدراك له ولا حياة فيه، ولا مفر من أن يثبت للمسبِّح إدراك ما، أو نوع حياة ما، قبل أن يصح وصفه بالتسبيح وصدقُه عليه، والآيات التي تنص على أن كل ما في السماوات والأرض يسبح لله، يضيق المقام عن ذكرها، وأكتفي منها بقوله تعالى: «وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا» {الإسراء: 44}، وقوله تعالى في سورة الحج: «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ» {الحج: 18}، وقوله في سورة سبأ: «وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ» {سبأ: 10}، ومعنى أَوِّبِي: «رجعي» معه الذكر والتسبيح، ثم قوله في سورة النور: «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ»{النور: 41}.
وهنأ فضيلته الرئيس والأمة العربية والإسلامية وشعبَ مصر العزيز بمولد نبي الإنسانية محمد بن عبد الله، ونشدّ على أيديكم في جهودكم المخلصة من أجل تحقيق ما تصبو إليه مصر العزيزة ويأمَلُه شعبها العريق من تنمية شاملة لاحت بشائرها منذ توليتم مسؤوليتكم… فامض على بركة الله، والله معكم يوفقكم وينصركم ويسدد خطاكم.
وإننا إذ نحتفل بصاحب الذكرى الخالدة التي خص مصر وشعبها بقوله الشريف: «اسْتَوْصُوا بِأَهْلِهَا خَيْرًا»([21]) وقال في أقباطها: «اللهَ اللهَ فِي قِبْطِ مِصْرَ»([22])، لا يسعنا إلا أن ندعو الله سبحانه في هذا اليوم المبارك لأمتنا الإسلامية والعربية، أن تتوحد وتجابه خطر الإرهاب بكل صوره وأشكاله، والذي لا شك في أنه إنما نجم وتغذى على فرقتنا نحن العرب والمسلمين، وعلى تمزيق وَحدتنا وتنازعنا واختلافنا على أنفسنا، ونؤكد أنه لا عاصم من شر هذا البلاء، ولا نجاة من خطره إلا بوحدة هذه الأمة وجمع شملها ويقظتها لما يُدبَّر لها من قوى البغي والطغيان..
وفي ختام كلمته أكد للمصريين والمسلمين جميعًا أن الأزهر الشريف بكلياته ومعاهده وهيئاته العلمية إنما يعلمكم عقائد دينكم وشرائعه كما أرادها الله خالصة نقية من تحريف الجاهلين وتضليل المضلين، ويأخذُ بأيديكم إلى طريق مستقيم مجمع عليه، ويُنجِّيكم من كل فكر ضال منحرف غير مختلف عليه