بقلم / أحمد حنفي
(1)
و ها نحن بصدد الحديث عن مجموعته “الجياد” ـ ثلاث قصائد ضمن ديوانه “ليس الآن” ـ كنموذج نثري لشاعر يتصدر أحد منابر الشعر السكندري المعاصر ، ذلك الشعر الذي افتقر ـ و ما يزال ـ للممارسات النقدية الجادة التي تقف على أبعاده الفنية و النفسية و دوافعه الإبداعية بالنقد و التحليل ، و لربما يحالفني الحظ بمتسع من الوقت قريباً لعرض نماذج أخرى من الشعر السكندري المعاصر لمحاولة وضع أطر عريضة لأهم ملامحة و اتجاهاته .. و ها نحن نبدأ.
(2)
و بانتهاء النص الأول لم نجد إجابةً على تسائلنا السابق ، فلم يخبرنا الجواد بكنهه ، أصار معادلاً للذات تبث من خلاله هزيمتها أم رمزاً للعروبة المستأنسة الداجنة ؟!
(3)
و بذلك تتحد ذوات الشعراء في الأزمة و تختلف في طريقة عبورها لتلك اللحظة الراهنة المحتقنة بفعل الآخر ، ذلك الآخر الذي يبدو نمطياً في معظم قصائد (صراع الذات/الآخر) من كونه يمارس على الذات كل أسباب القهر و التعذيب.
(4)
قد عرف الآخر الآن قدر (الذات/الجواد) و لكن بعد فوات الأوان.
مات الجواد إذن .. إنه ذات معطلة .. هرمة .. عجوز ، و لهذا أراد الآخرون تنصيبه ملكاً للرعاة ..
إنها محاولات الآخر ـ و الذي اتخذ صورة العقل الجمعي ـ في مكافأة هذه الذات ، ربما على سلبيتها و عدم مقاومتها لهم ، و بالفعل نصَّبوه سيداً و لكنه عجوزٌ لا يمكنه الوثب أو التمييز بين الألوان:
هذا الجواد الميت / المعطل / الهرم .. نراه مندهشاً من استدعائه من المقابر:
و لكن رد فعل الجواد في هذه اللحظة كان مغايراً عن ذي قبل .. فكيف عبرت الذات / الجواد هذه اللحظة الراهنة ؟
إنه يبصق على الجماهير و يولِّي خارجاً :
لقد اتخذ رد فعل إيجابياً في ظاهره ، لكنه مازال سلبياً حيث لا يتعدى كونه اعتراضاً على الآخرين ؛ فللجواد فلسفةٌ ، حيث يرى أنَّ لذة الانتصار آنيةٌ و لا يعوض عنها حفل تكريمٍ بعد موته ..
و هكذا اتخذت الذات طريقين لعبور اللحظة الراهنة ، أولهما الاستسلام و الهروب دون مواجهةٍ صريحةٍ ، و ثانيهما طريق في ظاهره إيجابي ممثلاً في الاعتراض على تكريم جاء متأخراً.
و قد عمد “أشرف دسوقي” إلى إنشاء علاقة بين الذات و الجواد ، أو بالأحرى بين الذات و الذات ، تمثلت في طرح قضيتها و خلعها على ذلك الجواد (الرمزي) الذي لا يتعدى كونه مرآةً لها تسترت خلفه لعدم امتلاكها الجرأة في الإفصاح عن هزيمتها علناً ، مما يلائم طرقها في عبور اللحظة الراهنة من سلبية وهروب تارة ، و إيجابية منقوصة تارة أخرى.
أما عن موت الجواد و استدعائه للحياة من قِبل الآخر ـ متمثلاً في العقل الجمعي المناهض للذات ـ فلا أعزوه كتنويع فنتازيٍ أو شكلٍ من أشكال الواقعية السحرية ، بقدر ما هو رمز لموت الروح داخل الجسد ، ليستحيل إلى جسدٍ معطلٍ مستسلمٍ ، كرد فعلٍ سلبيٍ تجاه المجتمع / الآخر.
(5)
بعد أن استعرضنا أزمة الذات في النصوص الثلاثة السابقة وجدنا أن العلاقةَ بين الذات و الآخر علاقةٌ عكسية ؛ فحين يعلو الآخر تنسحب الذات ، و حين يهادن الآخر تتمرد الذات فتعلو على الحدث !
و بعد .. فقد بقيت لدي أربع نقاط تجدر الإشارة إليهم:
1) النصوص الثلاثة المكونة لمجموعة “الجياد” ليست مجانية.
2) تلك النصوص ليست مكثفة ؛ و المجانية و الكثافة شرطان أساسيان من شروط قصيدة النثر لم يلتزم بهما الشاعر.
3) يوجد تداعٍ في كثير من الأسطر الشعرية إذا تخلص منها الشاعر لكانت نصوصه أكثر إحكاماً و قوَّة.
4) هناك الكثير من الأسطر الشعرية موزونة.
لنخلص من ذلك بنتيجتين:
أ- الشاعر لم يختلف في كتابة القصيدة الذاتية عن غيره من الشعراء المعاصرين له ؛ فالذات دائماً مقهورة مظلومةً ، ليصبح عبور اللحظة الراهنة هو وحده الذي يميز شاعراً عن آخر.
و الأمر اللافت للانتباه ـ و الجدير بالدراسة ـ أن جميع الشعراء يعبرون عن ذلك الجزء المقهور المنسحق من ذواتهم و يسكتون عن الجزء الآخر المظلم الذي يمارس قهره و تسلطه على الآخر بدوره و ربما على ذاته نفسها ، و ليس من البشرية في شئٍ أن نجد ذلك الإنسان المظلوم أبداً ، المقهور دوماً ، و الذي لا يمارس ذات القهر على من هم دونه أو على ذاته نفسها من باب المبدإ القائل “لكل فعل رد فعل” ، و إذا سلَّمنا بوجود هذا الإنسان فليس من المعقول أن يكون القهر أو الظلم الواقع على الذات أحد مسببات الشعرية و مقوِّم من مقوماتها ، أو أنه ليس من بين المتسلطين أو الطغاة شعراء أو أدباء ؛ إذ أن الاستعداد الفطري للكتابة و طرق التفكير المؤدية للخيال المُنتج ـ اللازم للإبداع ـ و الموهبة الشعرية عامةً ليست حكراً على المقهورين وحدهم دون غيرهم ، فلماذا إذن يصدر الشعراء و هم بإزاء الحديث عن (صراع الذات/الآخر) من معين القهر و الانسحاق ؟ و لماذا لا نجد ذاتاً شاعرةً لديها ما يكفي من الجراءة لفضح نفسها على القصيدة و توضيح مدى تسلطها على الآخر ربما كنوعٍ من التطهير ؟!
ب- النصوص الثلاثة السابقة واقعة في منطقة وسطى بين قصيدتي التفعيلة و النثر ؛ فهى بالأحرى محاولات أولية لشاعر تفعيلة مجيد يتلمس طريقه لقصيدة النثر.
و قصيدة النثر الحالية قد لا تراعي المجانية و التكثيف ؛ بل تجاوزت ذلك عند بعض كُتابها ، فنصوص أشرف دسوقي الثلاثة تقف بين طريقين شأنها شأن كل نقاط التحول الإبداعي من مرحلة لأخرى