بقلم :د.محمود بدر
فى الماضى القريب أدركنا الغزو الأمريكى للعراق , و قمنا بالتظاهر و الشجب و التنديد عندما رأينا أقدام الغازى الأمريكى تطأ أرض بغداد , و لكننا لم نتابع بعد مشهد جنود المحتل مشاهد لاحقة كانت أخطرمن الغزو العسكرى نفسه , كان ذلك هو مشهد الحاكم المدنى الأنيق المتبسم دائما بول بريمر الذى ارسلته العناية الأمريكية لبناء العراق الديموقراطى الودود المتحضر , و لم تمضى بضعة سنوات حتى كان أتم مهمته البالغة الخطورة على مستقبل العراق و المنطقة بأكملها .
دولة بريمر تتلخص فى بناء عراق جديد مقلم الأظافر , تتسلمه – باسم الديموقراطية – حكومات طائفية متناحرة لا ترى غير مصلحة طائفتها دون أى رؤية وطنية شاملة , أما من الناحية الاقتصادية فقام باهلاك الاقتصاد العراقى بسداد فواتير الاعمار الوهمية و بناء جيش عراقى يتكلف عشرات المليارات بحجة التسليح و التدريب , و حبذا لو كان جيشا ضعيفا فاسدا يكون عالة على دولته لا حاميا لها- و لاتمام ذلك كان أول ما قام به تسريح الجيش العراقى , و بناء حكومات قائمة على أحزاب طائفية , كل طائفة و حزب بما لديهم فرحون , و نرى آلان ما آلت له دولة العراق من فساد و ضعف و فقر حتى فى توفير المواد البترولية مع كون العراق يمتلك احدى أكبر احتياطيات العالم منها .
لقد ربحت أمريكا كثيرا من سياسة النصب و الاحتيال لنهب الاقتصاد للعراق أكثر من أى لص يسرق علنا تحت تهديد القوة , كلها أرباح فى صورة قانونية قى شكل عقود اعمار و تسليح و تدريب , وكلها تمت بموافقة و امضاء الحكومات العراقية .
تلك السياسة الاستعمارية لم تكن بالفكر الجديد عليهم و على بلادنا , فهكذا تعلم المحتل الجديد من المحتل القديم محاولا تكرار ممارسات المعلم الأنجليزى الأول اللورد كرومر فى مصر و من تبعه حين سلب مصر اقتصاديا و سياسيا بنفس الطريقة التى حاولت أمريكا تقليدها فى العراق , و من فرط السذاجة لدينا كانوا هم نفس المحتال و كنا نفس الزبائن فى الحالتين.
وضع الللورد كرومر سياسة ومنهاج لا تخطئوه عين المدقق لأهدافها , فأول ما قام به هو تسريح الجيش المصرى بقرار كتب بيد الخديوى الخائن , و حول الجيش المصرى لكتيبة تابعة للجيش الانجليزى, قتل نصفه فى الثورة المهدية فى السودان , السودان الذى سلمته الحكومة المصرية بكامل ممتلكاتها الأفريقية – بعد كل الخسائر البشرية التى قدمتها مصر – باتفاق يدا بيد مع حكومة مصطفى فهمى 1898 ليكون تحت ادراة حاكم انجليزى دون وجود للدولة المصرية تقريبا, و من مفارقات القدر أن يقوم الحاكم البريطانى للسودان باهداء جزء من السودان لاثيوبيا تقوم اثيوبيا اليوم ببناء سد النهضة عليه مهددة مصر فى وجودها و حياتها بالكامل , ثم جر شباب مصر كاملا لخدمة الجيش الانجليزى فى الحرب العالمية الأولى و كان أيضا باعلان الحكومة المصرية ذاتها الحرب على الدولة العثمانية .
اقتصاديا تخطى الاحتلال البريطانى صورة المستعمر النمطى الغشيم الذى يسرق مقدرات الدول تحت تهديد السلاح , و أحل محله وجه اللص القانونى الذى يسلب منك كل ما يريد بالقانون , و باتفاق موثق مع حكومة بلادك , فبدأ ببيع الاسطول العسكرى و التجارى المصرى الذى يقدر ثمنه ب 14 مليون جنيه فى وقتها ب 300 ألف جنيها , و كله تم بامضاء الحكومة المصرية العميلة , و أغلق كثير من المصانع المصرية التى انشأت منذ عهد محمد على ليقضى على النشاط التجارى و الصناعى فى مصر و لتبقى مجرد مزرعة للقطن الفاخر الذى يحول لمصانع بريطانيا بثمن بخس لتعيد تصنيعه و تصديره للعالم .
حتى هذا الثمن البخس لم يكن ليرضى أن يعطيه للمصريين عن طيب خاطر , فقام بالإجراء الأخطر و هو انشاء البنك الأهلى المصرى بعد استقدام بعض الصيارفة اليهود من ايطاليا لتقوم بدور البنك المركزى حاليا فى اصدار العملات الورقية لتحل محل الجنيهات الذهبية و الفضية المستخدمة فى مصر آنذاك , و من ثم قام بتحويل الجنيهات الذهبية بشكل ممنهج للبنوك البريطانية بعد استبدالها بالعملات الورقية التى لم تكن تكلفه أكثر من أمر بطباعة حفنة من الأوراق فى البنك الأهلى فكانت أكبر عملية نصب ممنهجة فى التاريخ المصرى , و تم وضع مقدرات الاقتصاد المصرى فى يد زمرة قليلة من مصريين و أجانب ولائهم لبريطانيا اصدق من الولاء لمصر , و الوقت لا يتسع لسرد كثير من اجراءات كرومر فى حق المجتمع المصرى حينها .
لم تسلم الأمور الاستغلالية لدولة كرومر من مجابهة كثير من الحركات و الشخصيات الوطنية فى مصر على مدار 70 عام من الاستعمار بداية من محاولة الاستقلال السياسى مع الحزب الوطنى مع مصطفى كامل و ثورة 1919 و العمليات الفدائية فى قناة السويس , واستكمالا بمحاولة الاستقلال الاقتصادى على يد طلعت حرب و بنك مصر , وكثير من المحاولات و الأفكار التى قدمها كثير من أبناء مصر آملين فى بعث دولة مصر و مكانتها الطبيعية المؤهلة لها بحكم تاريخ و جغرافية مصر.
حتى قامت ثورة يوليو مدفوعة بكل هذا الحراك الشعبى للانتفاض السياسى على أحزاب و احتلال و حكم مرسوم بريشة كرومر , فلم يكن ضباط الثورة بأصحاب رأى متفرد أو أنهم سابقوا عصرهم , بل كانت الثورة و الاستقلال الاقتصادى و السياسى و استعادة الدولة المصرية هو حلم و شعور كل وطنى فى مصر , لكن اختلاف الأمر بالنسبة لضباط يوليو أنهم امتلكوا القوة المناسبة للثورة الجزئية على صنيعة دولة كرومر من ملك و قوى سياسية تابعة , ليكتمل الأمر بالتفرغ لأصل الآفة و اجبار الاستعمار على الجلاء بعد الثورة بعامين.
ما بعد الاستقلال السياسى من أفكار لبناء الدولة المصرية لم تكن من بنات أفكار عبد الناصر أو زملاؤه من ضباط يوليو بل كانت فى مخيلة و عقول كثير من أبناء مصر النجباء , و إن كانت قد هضمت حقوقهم و ذكراهم فى ذاكرة التاريخ فإن أعمالهم ما تزال شاهدة على ما قدموه لصالح هذا البلد , و ما يذكر لقيادة الضباط الأحرار أن كانت لهم العزيمة و التحدى لتتحول تلك الافكار لشواهد حية على أرض الواقع , و كلنا يعرف قصة السد العالى و هى مشروع المهندس المصرى من أصل يونانى ادريانو دينينوس , و الذى كان اهم انجازات الثورة.
اذن لم تكن حركة يوليو حركة خاصة بمن قاموا باتمامها بل كانت قصة مصريين كافحوا من أجل مصر سواء كانوا من رجال يوليو أو من هم قبل يوليو أو من تقدم فى ظل ثورة يوليو ليقدم أى انجاز لأجل مصر.
دولة عبد الناصر لم تكن موجهة لملك أو سياسييين مصريين فهم لم يكونا أكثر من برواز فى لوحة رسمت بيد المستعمر , ليكتمل بهم الوجه القانونى لوجود دولة كرومر , و حتى المحاولات المشكورة لكل الأحزاب التى سعت الى الاستقلال سياسيا أو اقتصاديا , فقد تاهت فى دوامة الصراع و التنافس الحزبى الذى أذكاه المحتل بخبث ناجح.
و لأن لكل صفحات التاريخ انتصارتها و نكاستها فهكذا كانت صفحة يوليو , و لكن ما ينبغى أن يذكر عن نكساتها لكل المتفلسفين و السكارى بكره يوليو , أن نكساتها كانت فى معارك لصالح أمتها , بعد أن كنا ننتصر أو نهزم فى ساحات الصراع بين الكبار , نحن لا يشرفنا أن كنا منتصرين فى صفوف الجيش البريطانى فى الحروب العالمية الأولى و الثانية لنقتل و نقتل لأجل رفعة بريطانيا , بل يشرفنا أن نموت أو نحيا على جبهات فلسطين و سيناء و السويس فهذا ميداننا الطبيعى و هذه معاركنا حيث ينبغى أن نكون أحياء أو شهداء.
من فاتهم حصان يوليو دون أن يمتطوه ليس غريب عليهم أن يرموه بسهام التخيون و الفشل , و لكن المستغرب أن تكون الحرب ضد دولة يوليو فى هذه الايام ليس على ألسنة أبناء دولة كرومر المنتفعين من دولته نفوذا و اقتصادا فى زمانه , و لكن أن يتم الهجوم عليها من أبنائها الذين تعلموا مجانا فى جامعاتها و عمل آباءهم فى مصانع أنشأتها دولتها أو مزارع استصلحت أو وزعت عليهم بقانون الاصلاح الزراعى , أو انتموا لجيش قوى بعد أن كان الجيش المصرى كتيبة مرتزقة لبريطانيا يحارب و يقتل أبناؤه لأجل سلامة مستعمرات الانجليزى , حين نرى ذلك يجب أن نرى مدى نجاح قوم لم يقدموا انجاز لصالح عام و جاء الدور ليكونوا حصان طروادة لكل دخيل لهذا الوطن.
انتقد ثورة يوليو أو قائدها و اختلف معها كما تشاء , فالاختلاف سنة الله فى خلقه , ولكن لا تجعل من نفسك مطية لمن أرادوا استعادة دولة كرومر لينعموا بالسيادة على رقابنا نحن , و رقابهم اسفل نعال الغزاة , الحذر منهم اليوم قبل الغد , لأننا نرى منهم وجوه كثيرة تختلف ألوانهم السياسية و لكن اتفقت قلوبهم جميعا على التسلط على البلاد حتى لو تحت راية أى طامع فيها , و ذلك ما يجب أن نفرد له حديثا آخر إن شاء الله.