بقلم : د. محمد طلعت سعيد
تعتبر التكنولوجيا احدي السمات الرئيسية المميزة لهذا العصر، كاحدي نواتج الثورة الصناعية الرابعة ، اذ يَشهَدٌ العَالَمٌ تغيراتٍ دوليةٍ عديدة واسعة في نطاق الثورة المعلوماتية التي أثرت تأثيراً جزرياً على الطريقة التي تمر بها المعاملات التجارية، مما ساعد الصناعة المصرفية في الآونة الأخيرة في أن تشهد تقدماً ملموساً وجاءت التكنولوجيا المالية لتعبر عن نواتج احدي تلك المستجدات .
وقد جاء تعريف التكنولوجيا المالية بالقانون 194 لسنة 2020بشأن البنك المركزي والجهاز المصرفي بأنها ” نماذج أعمال أو تطبيقات أو منتجات مالية قائمة على استخدام التكنولوجيا.”
ويمكن ان نعرفها ايضا بأنها التقانة والابتكارات التي تسعى لمنافسة الأساليب المالية التقليدية عند تقديم الخدمات المالية وباستطاعتها أن تنتج نماذج أعمال جديدة، أو تطبيقات، أو عمليات، أو منتجات، تؤثر بشكل واضح على الأسواق المالية والمؤسسات وتقديم الخدمات المالية.
ولا شك ان نجاح تلك التجربة يحتاج الي تكاتف كافة الجهات المعنية ،لقد اخترت البدء في تناول هذا الموضوع لحداثته وايمانا بضرورة تثقيف القارئ بذلك الجانب عبر سلسلة مقالات متوالية ،باعتبار ان التثقيف المالي له دلالات عظيمة في تحقيق الاهداف المرجوة.
ولقد وقع الاختيار علي اول المواضيع الهامة المتعلقة بإفرازات التكنولوجيا المالية وهي فكرة العدالة الاقتصادية ….و المدخل لهذا الموضوع حقيقة قائمة هي ان تطبيقات التكنولوجيا المالية هي إحدى تطبيقات الاقتصاد التشاركي ….. فالاستراتيجية التشاركية مع البنوك التي تسعى إلى انتهاجها معظم الشركات الناشئة ستفيد كل من العملاء المستبعدين والمشمولين مالياً وستفيد
الشركات الناشئة بزيادة نموها واستقرار سوقها، وستصبح البنوك أكثر استجابة لاحتياجات العملاء المتغيرة والتكنولوجيا الصاعدة، فمفهوم العدالة الاقتصادية يتلخص في ثلاثة محاور
مؤداها حق كل شخص –طبيعي او معنوي – في تكافؤ الفرص لأجل الوصول إلى الملكية الخاصة للأصول ووسائل الانتاج ورأس المال وأيضاً المساواة في فرص الحصول على العمل المنتج. لذلك لابد أن تضمن الدولة لكل فرد فرص المساهمة في العملية الإنتاجية ويمثل ذلك فكرة محاربة الاحتكار ويلازم ذلك حق الفرد في الاستئثار بحصته بقدر مساهمته الانتاجية دون استبعاد للآخرين .
ورغم ان التكنولوجيا تبدو لأول وهلة وبشكل كبير تصب في جانب الكيانات الرأسمالية والاقتصاديات الغنية وليست في صالح الاقتصاديات النامية ،الا ان ذلك التعبير ليس دقيق علي اطلاقاته ، فتحقيق العدالة الاقتصادية بمعناها المتقدم وان كانت تحتاج الي جهد وتكاتف ، الا ان فرصة تكافؤ الفرص يفترض بالطبع عمل جهات الدولة المختلفة علي محاولة تحقيق التوازن التشاركي التنافسي بين البنوك باعتبارها اداة الدولة في تحقيق التوازن الاقتصادي وبين شركات التكنولوجيا المالية مما يساعدها على المنافسة الناجحة في السوق باعتبار أن فعالية السياسة النقدية في كل دولة تعتمد بدرجة كبيرة على درجة نمو النظام المصرفي، مدى الوعى المصرفي، نتيجة لذلك ظهرت الحاجة الملحة إلى تطوير الأجهزة المصرفية لملائمة التطور التكنولوجي الطارئ على المعاملات التجارية والاقتصادية، فظهر إلى حيز الوجود تقنية التكنولوجيا المالية، التي تعد مجال جديد مستقطب للشركات الناشئة التي ترغب في تحقيق ارباح طائلة ومكانة اقتصادية ضمن مجموعة كبيرة من المؤسسات المالية ذات الخبرة والحنكة في المجال، فالشركات الناشئة وضعت مخطط أعمال يجمع بين البرمجيات والتكنولوجيا لتقديم تشكيلة متميزة من الخدمات المالية متضمنة المدفوعات والعملات الرقمية وتحويل الاموال، سوق الاقتراض ، التمويل الجماعي، ادارة الثروة ،ادارة المخاطر وحتي التأمين حيث تملك تلك الشركات تقنيات تكنولوجية متسارعة ومبتكرة وتسعي للحصول علي الثقة المجتمعية ،بينما تتفوق عليها البنوك بالثقة المجتمعية وتسعي جاهدة لملاحقة البرمجيات التقنية لتلك الشركات ، لذا يحتم المنطق تعاون هذه الكيانات المالية مع بعضها البعض وان تسير في اتجاه تعاوني تشاركي في تلك الصناعة المالية الحديثة لتكمل بعضها البعض حتي تتحقق مبادي العدالة الاقتصادية وضمان عدم احتكار اي من تلك الكيانات لتلك الصناعة وبما يضمن وصول الخدمات المالية الي اكبر عدد من المستبعدين والوصول الي اكبر حيز من التكامل المالي وتحقيق العدالة الاقتصادية، فالتنافس المشروع بين البنوك وبين تلك الشركات يجب ان يكون محل اعتبار هام في الاستراتيجية الوطنية للتكنولوجيا المالية لتؤتي بثمارها المرجوة ،لذا فانه من المأمول ان يكون دور مجلس ادارة البنك المركزي بموجب القانون 194 لسنة 2020 جليا وفعال في تبني فكرة العدالة الاقتصادية و تحديد اطار تلك المنافسة ومراقبتها لضمان عدم الاحتكار وحتي لا تتحول اي من تلك الكيانات الي وعاء ادخاري للآخر.
وفي النهاية يبقي اختيار العملاء لأي من تلك الكيانات هو المعيار المحدد لأسبقية اي منهما علي الآخر طبقا لعوامل الجذب التي يقدمها كل منها للعميل ربما يضمن له حقوقه في تلك الصناعة الحديثة وهو ما تكشف عنه تطبيقات العمل الفعلية والايام المقبلة ..وللحديث بقية بإذن الله.