هناك في سجن القناطر، علي بوابته الحديدية الصدئة تبدأ الحكايات وتنتهى .. !
كمشاهد قبل كل شيء أتوجه بالتحية لصناع هذه التحفة الفنية، وأحب أن أشيد بما قدموه علي شاشة التلفاز طوال أيام شهر رمضان هذا العام، فقد حقق عملهم الإمتاع الكامل للكثيرين من حلقاته الأولى وحتى النهاية البائسة.. ولكن البؤس لم يسكن في نهاية العمل فحسب، فإن صح التعبير يمكننا أن نقول أن مسلسل سجن النسا عبارة عن حلقات متصلة من رصد الواقع بسوداويته، ودون أي مبالغة أو تكليف ..
وعلي سبيل المثال لا الحصر يمكننا أن نتذكر شخصية “دلال”.. وهي الشخصية التي قدمت ــ للأسف الشديد ــ في الدراما العربية أكثر من مره بمنتهى الرخص ، شخصية العاهرة كانت أغلب الوقت بعيدة إلى حد كبير عن عدد من كتاب السيناريو والمخرجين، فبعض صناع السينما والدراما فصلوها عن الواقع بسبب عدم قدرتهم علي قراءة العوامل النفسية والاجتماعية التي تجعل المرأة تبيع جسدها.. ولكننا هنا نرى رصد واقعي للحالة، رصد غارق في البؤس لكنك لا تملك إلا أن تتفاعل معه، والتفاعل مع الشخصية بما ترتكبه من جرم في حق نفسها أو في حق المجتمع هو سمة سائدة في المسلسل..
هنا ظهر التميز، وتجاوز العمل ما وقعت فيه أعمال فنية أخرى من إظهار البطل إيجابياً طوال الوقت.. لابد أن ينتصر طوال الوقت (وإن كان مجرماً).. لكن ما قدمته المخرجة كاملة أبو ذكرى مختلف بكل المقاييس، هي تدعوك للتفاعل فقط.. ولك الحكم في النهاية..
تستطيع أن تحب دلال أو تكرهها.. تستطيع أن تتأذي من حياة أو تشفق عليها.. تستطيع أن تضحك وأن ترى الواقع المعكوس في عالم “حرية الهنجرانية” وبناتها وأزواجهن، وتستطيع أيضاً أن تشمئز منهم وتعتبرهم طفيليات مجتمعية.. تستطيع أن تتعاطف مع “رضا” قاتلة مخدومتها، أو تتعاطف مع “دليلة” المقتولة.. !
-
سجن النسا وفن صناعة التراجيديا الناعمة
حكاية رضا هي التي أوضحت كل ما سبق ذكره.. المخرجة كاملة أبو ذكرى بدأت تلتقط بكاميرتها كل لمحة من وجه رضا بعد الجريمة.. جعلت المشاهد يتأمل..
الفنانة “روبي” كانت رائعة ، أبهرتني بأدائها.. وجه رضا كان قوياً وقاسياً في أول الأمر، استطاعت روبي أن تمرر ببراعة منقطعة النظير الصرامة والقسوة من وجه أغرقته الدموع وعرق الرهبة.. ثم تبدأ في الانهيار التدريجي بعد حضور والدها في الزيارة لتحمله ذنب جريمتها، وهي تردد جملتها “مش ترازوا فيا”.. ثم تستخدم نفس الجملة في حديثها التخيلي مع مخدومتها في رحلة الإعدام “مش ترازي فيا يا دليلة”..
وهنا تعلن انهيارها التام بعلامات الذعر علي وجهها .. وهنا أؤكد علي أن المخرجة برغم كل الطاقات التي استعملتها لتظهر تفاصيل ومكامن القوة والضعف بالشخصية إلا أنها لم تحاول أن تجتذب تعاطف الجمهور ولو للحظة واحدة ..
حتى حكاية غالية كانت محايدة رغم شدة المأساة ، فهنا أيضاً يمكنك كمتفرج أن ترى غالية مظلومة أومن الممكن جدا أن تتخلى عن قضيتها بمنطق : تستاهل .. هي أيه الي وداها هناك ؟
أي أنك قد لا تأخذ دور المدافع عنها لاعتقادك بأنها استهترت بحق نفسها من البداية . صابر لم يكن شخصاً يؤتمن ، هي بنفسها رأت ما يثبت ذلك أكثر من مره ، ورغم ذلك أسلمته نفسها ومالها فكانت النتيجة أن تتحول السجانة لسجينة .. !
نيللي كريم
ولا أبالغ هنا حين أقول أن “نيلي كريم” في دور غالية هذا العام تجلس علي عرش الدراما العربية ، وخصوصاً بعد إبداعها وتألقها في مسلسل “ذات” العام الماضي .. كما أنني لا استطيع أن اغفل دور الفنان “أحمد داود” الممثل المسرحي الذي كسبته شاشة التلفاز ، حيث أنه استطاع بمنتهى البساطة أن يجعل الكثيرين يرون صابر كما يعرفونه ، شاب مصري من الحارة الشعبية ، صابر سائق الميكروباص كما نعرفه جميعاً .. وشخصية نوارة .. ريهام حجاج ؛ الشر يسكن بين عيني امرأة..!
سلوى خطاب
وأما عن سلوى خطاب فقد بدأت مؤخراً تترك بصمة لا تنسى ، حيث كانت تمثل بكل ما تملك من طاقة إبداعية في دور (سمره) بمسلسل “نيران صديقة” العام الماضي ، وتأتى هذا العام في دور (عزيزة) لتصبح جملتها الشهيرة : والله يا عزيزة كلامك كله حكم . أيقونة التعليقات علي موقع التواصل الاجتماعي .
كتابة مسلسل سجن النسا
ولا أملك إلا أن أرفع القبعة للكاتبتين المبدعتين “مريم نعوم” و “هالة الزغندى” .. أمتعونا في العام الماضي بمعالجة درامية رائعة لرواية الأستاذ الكبير أسامة أنور عكاشة “منخفض الهند الموسمي” وقدموها في مسلسل “موجة حارة” بطولة الفنان إياد نصار والفنانة رانيا يوسف ، وأبهرونا هذا العام بقدرتهما علي بلورة مسرحية سجن النساء للأديبة العظيمة فتحية العسال في رائعة تليفزيونية تحمل نفس الاسم.. قدرة علي الرؤية لا يحققها إلا قدر عظيم من الثقافة والوعي والإدراك .. ومعايشة للواقع لا يؤرقها إلا سواده الأعظم..!