شعر اعتذار جاهلي من أروع وأرق الأشعار التي من الممكن أن تدق مسامعنا، على الرغم من أنها قد تحتوي على الكلمات التي يصعب فهمها، إلا أنها تعبر للطرف الآخر عن مدى شعور الحبيب بالأسف، لذا ومن خلال الواقع العربي، سوف نتعرف على عدد من قصائد الشعر الجاهلي التي تشير إلى اعتذار المحب.
شعر اعتذار جاهلي
لا يعيب المحب أن يتقدم بخالص الأسف والاعتذار إلى حبيبته إن كان هو المخطيء، ففي المقابل سيجد أن من تحبه قد سامحته على الفور، كونه قد جعل حزنها قضيته الأولى، فأعظم الرجال وأشدهم بأسًا، كما سنرى في شعر اعتذار جاهلي، كانوا لا يتوانون في أن يقوموا بالاعتذار من محبيهم إن أخطأوا في حقهم.
لذا ومن خلال السطور القادمة سوف نتعرف على عدة قصائد شعرية، قيلت في العصر الجاهلي منذ سنوات ليست بقليلة، لكنها حملت بين طياتها الكثير من مواطن الجمال، وهي التي جعلتها تتداول لتصل إلينا في عصرنا هذا.
فكلما شعرنا أننا بحاجة إلى التغلغل في لغتنا العربية الجميلة، ما علينا سوى التوجه إلى الشعر الجاهلي الذي يعد كالبحر الذي لا ينضب أبدًا، حيث أتت تلك القصائد الشعرية على النحو التالي:
1- قصيدة هل للحليم على ما فات من أسف
تلك القصيدة الشعرية التي ألقاها الشاعر المخضرم بشر بن أبي خازم، والتي تعد من أفضل قصائد شعر اعتذار جاهلي، حيث احتوت على الكثير من مواطن الجمال العربية الأصيلة، والتي أصبحنا في حاجة ماسة إليها في عصرنا هذا.
فهي تدل على اعتذار الحبيب اعتذارًا راقيًا عما بدر منه، فالمحب من قلبه بصدقه، لن يقول أين كرامتي، أو تلك الكلمات التي تدل على أنه لم يحب من كل جوارحه، بل سيكون هدفه الأول والأخير أن ينال رضا الحبيب.
لذا ومن خلال السطور التالية سوف نتعرف على واحدة من أفضل قصائد الشعر التي قيلت كشعر اعتذار جاهلي، حيث حملت عنوان (هل للحليم على ما فات من أسف)، وجاءت أبياتها على النحو الآتي:
هَل لِلحَليمِ عَلى ما فاتَ مِن أَسَفِ
أَم هَل لِعَيشٍ مَضى في الدَهرِ مِن خَلَفِ
وَما تَذَكَّرُ مِن سَلمى وَقَد شَحَطَت
في رَسمِ دارٍ وَنُؤيٍ غَيرَ مُعتَرَفِ
جادَت لَهُ الدَلوُ وَالشِعرى وَنَوءُهُما
بِكُلِّ أَسحَمَ داني الوَدقِ مُرتَجِفِ
وَقَد غَشيتَ لَها أَطلالَ مَنزِلَةٍ
قَصرًا بِرامَةَ وَالوادي وَلَم تَصِفِ
كَأَنَّ سَلمى غَداةَ البَينِ إِذ رَحَلَت
لَم تَشتُ جاذِلَةً فيها وَلَم تَصِفِ
فَسَلِّ هَمَّكَ عَن سَلمى بِناجِيَةٍ
خَطّارَةٍ تَغتَلي في السَبسَبِ القَذَفِ
وَجناءَ مُجفَرَةِ الجَنبَينِ عاسِفَةً
بِكُلِّ خَرقٍ مَخوفٍ غَيرِ مُعتَسَفِ
هَذا وَإِن كُنتُ قَد عَرَّيتُ راحِلَتي
مِنَ الصَبا وَعَدَلتُ اللَهوَ لِلخَلَفِ
فَقَد أَراني بِبانِقياءَ مُتَّكِئًا
يَعسى وَليدانِ بِالحيتانِ وَالرُغُفِ
وَقَهوَةٍ تُنشِقُ المُستامَ نَكهَتُها
صَهباءَ صافِيَةٍ مِن خَمرِ ذي نَطَفِ
يَقولُ قاطِبُها لِلشَربِ قَد كَلَفَت
وَما بِها ثَمَّ بَعدَ القَطبِ مِن كَلَفِ
تَرى الظُروفَ وَإِن عَزَّ الَّذي ضَمِنَت
مَصفوفَةً بَينَ مَبقورٍ وَمُجتَلَفِ
في فِتيَةٍ لا يُضامُ الدَهرَ جارُهُمُ
هُمُ الحُماةُ عَلى الباقينَ وَالسَلَفِ
لَيسوا إِذا الحَربُ أَبدَت عَن نَواجِذِها
يَومَ اللِقاءِ بِأَنكاسٍ وَلا كُشُفِ
اقرأ أيضًا: شرح قصيدة حسان بن ثابت في رثاء الرسول
2- قصيدة أتاني أبيت
قصيدة أخرى جاءت على هيئة شعر اعتذار جاهلي، حيث كتبها النابغة الذبياني، متوجهًا إلى حبيبته بمشاعر لم نشهد رقتها من قبل، فهو يعتذر منها عما بلغها عنه من سوء، يوجه الاعتذار لقلبها إن انتابه الألم أو الحزن كونها شعرت أنه من الممكن أن يقع في خيانتها.
فنحن الآن في زمن قل فيه الحب الحقيقي، فكنا بحاجة إلى استعادة تلك المشاعر النبيلة التي نقرأها عبر شعر اعتذار جاهلي، حيث أتت أبيات القصيدة على النحو التالي:
أَتاني أَبَيتَ اللَعنَ أَنَّكَ لِمتَني
وَتِلكَ الَّتي أُهتَمُّ مِنها وَأَنصَبُ
فَبِتُّ كَأَنَّ العائِداتِ فَرَشنَني
هَراسًا بِهِ يُعلى فِراشي وَيُقشَبُ
حَلَفتُ فَلَم أَترُك لِنَفسِكَ رَيبَةً
وَلَيسَ وَراءَ اللَهِ لِلمَرءِ مَذهَبُ
لَئِن كُنتَ قَد بُلِّغتَ عَنّي خِيانَةً
لَمُبلِغُكَ الواشي أَغَشُّ وَأَكذَبُ
وَلَكِنَّني كُنتُ اِمرًَا لِيَ جانِبٌ
مِنَ الأَرضِ فيهِ مُستَرادٌ وَمَذهَبُ
مُلوكٌ وَإِخوانٌ إِذا ما أَتَيتُهُم
أُحَكَّمُ في أَموالِهِم وَأُقَرَّبُ
كَفِعلِكَ في قَومٍ أَراكَ اِصطَنَعتَهُم
فَلَم تَرَهُم في شُكرِ ذَلِكَ أَذنَبوا
فَلا تَترُكَنّي بِالوَعيدِ كَأَنَّني
إِلى الناسِ مَطلِيٌّ بِهِ القارُ أَجرَبُ
أَلَم تَرَ أَنَّ اللَهَ أَعطاكَ سورَةً
تَرى كُلَّ مَلكٍ دونَها يَتَذَبذَبُ
فَإِنَّكَ شَمسٌ وَالمُلوكُ كَواكِبٌ
إِذا طَلَعَت لَم يَبدُ مِنهُنَّ كَوكَبُ
وَلَستَ بِمُستَبقٍ أَخًا لا تَلُمَّهُ
عَلى شَعَثٍ أَيُّ الرِجالِ المُهَذَّبُ
فَإِن أَكُ مَظلومًا فَعَبدٌ ظَلَمتَهُ
وَإِن تَكُ ذا عُتبى فَمِثلُكَ يُعتِبُ
اقرأ أيضًا: قصيدة (بِلَا لِسَانٍ) للشاعرة العراقية ناهد الشمري
3- أمن آل مية رائح
من الهام جدًا أنه عندما نرى أن محبينا قد أخذوا منا جانبًا، وذبلت أعينهم من الحزن جراء ما فعلنا، أن نشعرهم أنه ذوي قيمة عالية في قلوبنا، فلا نتركهم إلا بعدما نتأكد من أن كل شئ في قلوبهم قد أصبح على ما يرام، فليس عدلًا أن نغفو في نوبة من النوم العميق، ونحن نعلم أن أحبائنا يعانون من ألم يستوجب الاعتذار، فنحن عندما نقدم عذرنا لمن قمنا بإحزان قلبه رغمًا عنا، من شأنه أن يعفو.
كما أن تراكم الحزن في عيون المحب دون أن يجد من يضمد جرحه، تكون نتيجته الجفاء المحقق، وهنا لابد لقصة الحب أو الصلة أيًا كان نوعها، أن تنتهي دون رجوع، لذا ومن خلال ما يلي سوف نتناول قصيدة أخرى من قصائد شعر اعتذار جاهلي، والتي تحمل عنوان (آمن آل مية رائح) حيث أتت أبياتها على النحو التالي:
أَمِن آلِ مَيَّةَ رائِحٌ أَو مُغتَدِ
عَجلانَ ذا زادٍ وَغَيرَ مُزَوَّدِ
أَفِدَ التَرَجُّلُ غَيرَ أَنَّ رِكابَنا
لَمّا تَزُل بِرِحالِنا وَكَأَن قَدِ
زَعَمَ البَوارِحُ أَنَّ رِحلَتَنا غَدًا
وَبِذاكَ خَبَّرَنا الغُدافُ الأَسوَدُ
لا مَرحَبًا بِغَدٍ وَلا أَهلًا بِهِ
إِن كانَ تَفريقُ الأَحِبَّةِ في غَدِ
حانَ الرَحيلُ وَلَم تُوَدِّع مَهدَدًا
وَالصُبحُ وَالإِمساءُ مِنها مَوعِدي
في إِثرِ غانِيَةٍ رَمَتكَ بِسَهمِها
فَأَصابَ قَلبَكَ غَيرَ أَن لَم تُقصِدِ
غَنيَت بِذَلِكَ إِذ هُمُ لَكَ جيرَةٌ
مِنها بِعَطفِ رِسالَةٍ وَتَوَدُّدِ
وَلَقَد أَصابَت قَلبَهُ مِن حُبِّها
عَن ظَهرِ مِرنانٍ بِسَهمٍ مُصرَدِ
نَظَرَت بِمُقلَةِ شادِنٍ مُتَرَبِّبٍ
أَحوى أَحَمِّ المُقلَتَينِ مُقَلَّدِ
وَالنَظمُ في سِلكٍ يُزَيَّنُ نَحرَها
ذَهَبٌ تَوَقَّدُ كَالشِهابِ الموقَدِ
صَفراءُ كَالسِيَراءِ أُكمِلَ خَلقُها
كَالغُصنِ في غُلَوائِهِ المُتَأَوِّدِ
وَالبَطنُ ذو عُكَنٍ لَطيفٌ طَيُّهُ
وَالإِتبُ تَنفُجُهُ بِثَديٍ مُقعَدِ
مَحطوطَةُ المَتنَينِ غَيرُ مُفاضَةٍ
رَيّا الرَوادِفِ بَضَّةُ المُتَجَرَّدِ
قامَت تَراءى بَينَ سَجفَي كِلَّةٍ
كَالشَمسِ يَومَ طُلوعِها بِالأَسعُدِ
أَو دُرَّةٍ صَدَفِيَّةٍ غَوّاصُها
بَهِجٌ مَتى يَرَها يُهِلَّ وَيَسجُدِ
أَو دُميَةٍ مِن مَرمَرٍ مَرفوعَةٍ
بُنِيَت بِآجُرٍّ تُشادُ وَقَرمَدِ
سَقَطَ النَصيفُ وَلَم تُرِد إِسقاطَهُ
فَتَناوَلَتهُ وَاِتَّقَتنا بِاليَدِ
بِمُخَضَّبٍ رَخصٍ كَأَنَّ بَنانَهُ
عَنَمٌ يَكادُ مِنَ اللَطافَةِ يُعقَدِ
نَظَرَت إِلَيكَ بِحاجَةٍ لَم تَقضِها
نَظَرَ السَقيمِ إِلى وُجوهِ العُوَّدِ
تَجلو بِقادِمَتَي حَمامَةِ أَيكَةٍ
بَرَدًا أُسِفَّ لِثاتُهُ بِالإِثمِدِ
كَالأُقحُوانِ غَداةَ غِبَّ سَمائِهِ
جَفَّت أَعاليهِ وَأَسفَلُهُ نَدي
زَعَمَ الهُمامُ بِأَنَّ فاها بارِدٌ
عَذبٌ مُقَبَّلُهُ شَهِيُّ المَورِدِ
زَعَمَ الهُمامُ وَلَم أَذُقهُ أَنَّهُ
عَذبٌ إِذا ما ذُقتَهُ قُلتَ اِزدُدِ
زَعَمَ الهُمامُ وَلَم أَذُقهُ أَنَّهُ
يُشفى بِرَيّا ريقِها العَطِشُ الصَدي
أَخَذَ العَذارى عِقدَها فَنَظَمنَهُ
مِن لُؤلُؤٍ مُتَتابِعٍ مُتَسَرِّدِ
لَو أَنَّها عَرَضَت لِأَشمَطَ راهِبٍ
عَبَدَ الإِلَهِ صَرورَةٍ مُتَعَبِّدِ
لَرَنا لِبَهجَتِها وَحُسنِ حَديثِها
وَلَخالَهُ رُشدًا وَإِن لَم يَرشُدِ
بِتَكَلُّمٍ لَو تَستَطيعُ سَماعَهُ
لَدَنَت لَهُ أَروى الهِضابِ الصُخَّدِ
وَبِفاحِمٍ رَجلٍ أَثيثٍ نَبتُهُ
كَالكَرمِ مالَ عَلى الدِعامِ المُسنَدِ
فَإِذا لَمَستَ لَمَستَ أَجثَمَ جاثِمًا
مُتَحَيِّزًا بِمَكانِهِ مِلءَ اليَدِ
وَإِذا طَعَنتَ طَعَنتَ في مُشَهدِفٍ
تلك الأمسية الشعرية لا يمكننا أن نخرج من الحالة التي وضعتنا فيها على الفور، فالشعر الجاهلي له القدرة على أن يعرفنا مدى سمو ورقي لغتنا العربية الجميلة، كما رأينا في شعر اعتذار جاهلي.