يُمكن شرح قصيدة المواكب لجبران خليل جبران بطريقة المقطوعات، أما عن كاتبها فقد تعددت مواهبه، فلم يكن شاعرًا فحسب إنما كان فيلسوفًا وأديبًا ورسامًا، لبناني الأصل وبدأ مشواره الأدبي في أمريكا، وله العديد من القصائد المميزة، على غرار قصيدة المواكب موضوع حديثنا اليوم في الواقع العربي.
شرح قصيدة المواكب لجبران خليل جبران
كان هو الشاعر الأفضل مبيعًا، ولم لا وقد نالت مؤلفاته المرتبة الثانية في مبيعات الولايات المتحدة، وقد تجلى في تلك المؤلفات الطابع العقائدي الديني، ومن أشهر قصائده على الإطلاق قصيدة المواكب التي تصنف من القصائد الطويلة، أضفى عليها الرومانسية وبيّن مدى امتزاجه مع الطبيعة فيها، فالطبيعة هي سبب سعادته الأبدية، تمثل عالمه المثالي الكامل الذي ينأى عن أي زيف أو شر.
أما عن سبب تسمية قصيدته بالمواكب فكان ذلك تشبيهًا لجموع البشر ممن انحرفوا عن الطرق الصائبة وفضلوا العالم المادي الزائف وتصنعوا في تقاليدهم وعاداتهم وأصابتهم المغالاة في المدنية.. أما عنه فهو من تحرر من تلك القيود، وتجرد من تقاليدهم، وأصبح بصدد الطبيعة، حيث المثالية في كل شيء والسعادة المنشودة.
قد امتاز أسلوب جبران خليل جبران في قصيدة المواكب بالاستعانة بالصور الفنية والاستعارات، علاوة على كثرة استخدام أسلوب التوكيد.. مما يدلل على يقينه الحازم بآرائه والرغبة في إقناع السامع والمتلقي بوجهته الفلسفية.
لمّا كانت تلك القصيدة من القصائد الطويلة لجبران وقد أجمل فيها أفكاره الفلسفية باحثًا عن الكمال الإنساني، استطعنا أن نوجز المائتين وثلاثة أبيات في بعض المقطوعات وفقًا لمضمونها على الترتيب، والتي جاءت على النحو التالي:
1- مقطوعة الخير
بدأ حديثه فيما يمايز بين البشر، فهناك الأخيار والأشرار، وما يصنفهم هكذا نفوسهم، فضعيف النفس مجبر على فعل الشر لا يطيق فعل الخير، فهو كالآلة التي يتحكم فيها سيّدها، لذا سيأتي يوم ويتحررون فيه من تلك القيود التي تحكمهم، فأصحاب النفوس الضعيفة تمامًا كالقطيع الذي يسير دون وعي منه وإدراك.. وكان ذلك شرح قصيدة المواكب لجبران خليل جبران في أول أبياتها:
الخير في الناس مصنوعٌ إذا جُبروا
والشرُّ في الناس لا يفنى وإِن قبروا
وأكثر الناس آلاتٌ تحركها
أصابع الدهر يوماً ثم تنكسرُ
فلا تقولنَّ هذا عالم علمٌ
ولا تقولنَّ ذاك السيد الوَقُرُ
فأفضل الناس قطعانٌ يسير بها
صوت الرعاة ومن لم يمشِ يندثر
اقرأ أيضًا: شرح قصيدة المساء لخليل مطران
2- مقطوعة الدين
في الغابات، لا مكان لقوانين حاكمة، لذا هي المكان المثالي للعيش، تحتوي في طياتها كل الكائنات ولا ترفض أحدًا.. وهنا جاء رأي جبران محلًا للنقد فقد أشار أن الغابات ليس فيها مجالًا للكفر، فصوت الدين يتمثل في صوت الناي الذي يصدح فيها.. إلا أن ما يقصده الشاعر هنا الجمع بين الأديان، بأنه لا تكفير لديانة عن الأخرى فكلها أديان سماوية، ربما تتدارك ذلك المعنى المقصود بالنظر إلى الأبيات التالية في قصيدة المواكب لجبران خليل جبران:
ليس في الغابات راعٍ.. لا ولا فيها القطيعْ
فالشتا يمشي ولكن.. لا يُجاريهِ الربيعْ
خُلقَ الناس عبيداً.. للذي يأْبى الخضوعْ
فإذا ما هبَّ يوماً.. سائراً سار الجميعْ
أعطني النايَ وغنِّ.. فالغنا يرعى العقولْ
وأنينُ الناي أبقى.. من مجيدٍ وذليلْ
ليس في الغابات دينٌ.. لا ولا الكفر القبيحْ
فإذا البلبل غنى.. لم يقلْ هذا الصحيحْ
إنَّ دين الناس يأْتي.. مثل ظلٍّ ويروحْ
لم يقم في الأرض دينٌ.. بعد طه والمسيح
أعطني الناي وغنِّ.. فالغنا خيرُ الصلاة
وأنينُ الناي يبقى.. بعد أن تفنى الحياةْ
اقرأ أيضًا: شرح قصيدة كبار الحوادث في وادي النيل
3- مقطوعة العدل
هنا استطاع الشاعر أن يُدلي برأيه فيما يخص العدل، ويرى أنه غائبًا بين بني البشر، فليس لديهم القدرة على تحقيق العدالة.. وإن تم تحقيقها فإنها تكون مُجحفة حينما يُطبق على الفقير قانونًا ليعاقب عليه وهو نفسه المطبق على الغنيّ، بل يكون أشد ظلمًا إن ساد منطق القوة والبقاء للأقوى.. ويقارن هذا بالعيش في الغابات، حيث الطبيعة العادلة بالفطرة، فيكون الجميع سواسية، لا مجال للنصر أو الهزيمة، وجاءت أبيات قصيدة المواكب لجبران خليل جبران التي تتناول العدل على النحو التالي:
والعدلُ في الأرضِ يُبكي الجنَّ لو سمعوا
بهِ ويستضحكُ الأموات لو نظروا
فالسجنُ والموتُ للجانين إن صغروا
والمجدُ والفخرُ والإثراءُ إن كبروا
فسارقُ الزهر مذمومٌ ومحتقرٌ
وسارق الحقل يُدعى الباسلُ الخطر
وقاتلُ الجسمِ مقتولٌ بفعلتهِ
وقاتلُ الروحِ لا تدري بهِ البشرُ
ليس في الغابات عدلٌ لا ولا فيها العقابْ
فإذا الصفصاف ألقى ظله فوق الترابْ
لا يقول السروُ هذي بدعةٌ ضد الكتابْ
إن عدلَ الناسِ ثلجُ إنْ رأتهُ الشمس ذابْ
أعطني الناي وغنِ فالغنا عدلُ القلوبْ
وأنين الناي يبقى بعد أن تفنى الذنوبْ
اقرأ أيضًا: شرح قصيدة مصر تتحدث عن نفسها
4- مقطوعة العلم
بداية العلم تكمن في المعرفة، ولا ينتهي العلم إلا بفناء المتعلم، فالإنسان المتفرد بعلمه يعتبر غريبًا بين أقرانه، وفي الغابات لا مجال للعلم أو الجهل، حيث الجميع يتساوى في المعرفة، أما العلوم الإنسانية لا يستطيع أحدهم أن يصل إلى الحقيقة فيها.. ويؤكد على أن صوت الناي هو صوت العلم الخالد، وهنا في شرح قصيدة المواكب لجبران خليل جبران نذكر:
والعلمُ في الناسِ سبلٌ بأنَ أوَّلها
أما أواخرها فالدهرُ والقدرُ
وأفضلُ العلم حلمٌ إن ظفرت بهِ
وسرتَ ما بين أبناء الكرى سخروا
فان رأيتَ أخا الأحلام منفرداً
عن قومهِ وهو منبوذٌ ومحتقرُ
فهو النبيُّ وبُرد الغد يحجبهُ
عن أُمةٍ برداءِ الأمس تأتزرُ
وهو الغريبُ عن الدنيا وساكنها
وهو المهاجرُ لامَ الناس أو عذروا
وهو الشديد وإن أبدى ملاينةً
وهو البعيدُ تدانى الناس أم هجروا
ليس في الغابات علمٌ.. لا ولا فيها الجهولْ
فإذا الأغصانُ مالتْ.. لم تقلْ هذا الجليلْ
إنّ علمَ الناس طرَّا.. كضبابٍ في الحقولْ
فإذا الشمس أطلت.. من ورا الأفاق يزولْ
أعطني النايَ وغنِّ.. فالغنا خير العلومْ
وأنينُ الناي يبقى.. بعد أن تطفي النجومْ
اقرأ أيضًا: قصيدة بتحب غيري للشاعر محمد شاكر إبراهيم
5- مقطوعة السعادة
ما السعادة إلا وهمًا، لا يُمكن تحقيقه كاملًا، وإن نشد أحدهم سعادة ما يلبث إلا أن يمل منها، فالسعادة لا تقتصر على تحقيق الأهداف والطموحات إنما تلك سعادة وهمية، فالسعادة الحقيقية ستجدها في الغاب، حيث لا كلل ولا ملل.. فقط الأمل الدائم، وجاءت الأبيات على النحو التالي:
وما السعادة في الدنيا سوى شبحٍ
يُرجى فإن صارَ جسماً ملهُ البشرُ
كالنهر يركض نحو السهل مكتدحاً
حتى إذا جاءَهُ يبطي ويعتكرُ
لم يسعد الناسُ إلا في تشوُّقهمْ
إلى المنيع فإن صاروا بهِ فتروا
فإن لقيتَ سعيداً وهو منصرفٌ
عن المنيع فقل في خُلقهِ العبرُ
ليس في الغاب رجاءٌ.. لا ولا فيه المللْ
كيف يرجو الغاب جزءا.. وعَلىَ الكل حصلْ
وبما السعيُ بغابٍ.. أَملاً وهو الأملْ
إنما العيش رجاءً.. إِحدى هاتيك العللْ
أعطني النايَ وغنِّ.. فالغنا نارٌ ونورْ
وأنين الناي شوقٌ.. لا يدانيهِ الفتور
6- مقطوعة وصف الغاب
يذهب الشاعر بمخيلته وقلمه إلى لبنان موطنه الأصلي، فطالما أسرته الطبيعة هناك، بالجبال والسهول.. تلك هي الطبيعة التي يتوق إلى السعادة فيها، أما عن المدن فهي أماكن زائفة لا يكمن فيها الوجود، فقد تجده بين جداول الماء والأزهار والصخور، وهنا نشرح قصيدة المواكب لجبران خليل جبران في أبياتها الأخيرة كما يلي:
أعطني الناي وغنِّ.. وانس ما قلتُ وقلتا
إنما النطقُ هباءٌ.. فأفدني ما فعلنا
هل تخذتَ الغاب مثلي.. منزلاً دون القصورْ
فتتبعتَ السواقي.. وتسلقتَ الصخورْ
هل تحممتَ بعطرٍ.. وتنشقت بنورْ
وشربت الفجر خمراً.. في كؤُوس من أثير
هل جلست العصر مثلي.. بين جفنات العنبْ
والعناقيد تدلتْ.. كثريات الذهبْ
فهي للصادي عيونٌ.. ولمن جاع الطعامْ
وهي شهدٌ وهي عطرٌ.. ولمن شاءَ المدامْ
هل فرشتَ العشب ليلاً.. وتلحفتَ الفضا
زاهداً فيما سيأْتي.. ناسياً ما قد مضى
وسكوت الليل بحرٌ.. موجهُ في مسمعكْ
وبصدر الليل قلبٌ.. خافقٌ في مضجعكْ
أعطني الناي وغنِّ.. وانسَ داًْء ودواء
إنما الناس سطورٌ.. كتبت لكن بماء
ليت شعري أي نفعٍ.. في اجتماع وزحامْ
وجدالٍ وضجيجٍ.. واحتجاجٍ وخصامْ
كلها إنفاق خُلدٍ.. وخيوط العنكبوتْ
فالذي يحيا بعجزٍ.. فهو في بطءٍ يموتْ
العيشُ في الغاب والأيام لو نُظمت
في قبضتي لغدت في الغاب تنتثر
لكن هو الدهرُ في نفسي له أَربٌ
فكلما رمتُ غاباً قامَ يعتذرُ
وللتقادير سبلٌ لا تغيرها
والناس في عجزهم عن قصدهم قصروا.
يعتبر جبران خليل جبران من الشعراء العرب الأوائل الذي عزم على وصف الطبيعة في قصائده والتغنيّ بمظاهرها الخلابة.. بل والامتزاج معها بوجدانه في كثير من الأبيات.