في مجتمعاتنا العربية، لم يعد الإجبار مباشرًا كما عهدنا في أزمنة سابقة، ربما لوجود القوانين التي تجرم ذلك، وإن كنت في قرارة نفسي أومن أن تلك القوانين مجرد حبر على ورق لا أكثر، بعد أن أصبحت الحرية حقًّا مفروغًا منه كما يزعمون لا نقاش فيه، ولكنها في الوقت نفسه حريةً محدودةَ السقفِ، وتمنح للشابِّ دون الفتاة.
في عام 1889 قام قاسم أمين بتأليف كتاب تحت عنوان “تحرير المرأة”، بدعم من محمد عبده وسعد زغلول وأحمد لطفي السيد، قال فيه إن حجاب المرأة السائد ليس من الإسلام، وقال إن الدعوة إلى ازالته ليست خروجًا على الإسلام، ثم تبعه بنشر كتاب آخر في عام 1900 تحت عنوان “المرأة الجديدة”، يتضمن نفس أفكار الكتاب الأول، ثم أعقب ذلك اشتراك النساء بقيادة هدى شعراوي في ثورة 1919، فقد دخلن غمار الثورة بأنفسهن، وبدأت حركتهن السياسية بالمظاهرة التي قمن بها في صباح يوم 20 مارس سنة 1919.
أول مرحلة للتحرير كانت عندما دعا سعد زغلول النساء اللواتي يحضرن خطبته أن يزحن النقاب عن وجوههن، وهو الذي نزع الحجاب عن وجه نور الهدى محمد سلطان التي اشتهرت باسم “هدى شعراوي” مكونة الاتحاد النسائي المصري، وذلك عند استقباله في الإسكندرية بعد عودته من المنفى، واتبعتها النساء فنزعن الحجاب بعد ذلك.
تأسس الاتحاد النسائي عام 1924 بعد عودة مؤسسته هدى شعراوي من مؤتمر الاتحاد النسائي الدولي، الذي عقد في روما عام 1922، ونادى بجميع المبادئ التي نادى بها من قبل قاسم أمين، مهد هذا الاتحاد بعد عشرين عامًا لعقد مؤتمر الاتحاد النسائي العربي عام 1944، وقد حضرته مندوبات عن البلاد العربية، أما الآن، فقد وصل الأمر إلى ما نراه من حرية للفتاة تبدو غير منقوصة، ويبدو أن ذلك ما زال يؤرق المجتمع، فلجأ إلى طرق ملتوية لوأدها عن طريق بث حاجة الفتاة الدائمة، ووهمًا ادَّعوا أنها حرة، فتجدها تختار ثيابها، ودراستها، وخطيبها، بل إنها أحيانًا هي من تصحب ذلك الزوج المستقبلي إلى بيت أهلها وهي تؤمن في كل هذا أنها حرة، ولكن أي حرية تلك والمجتمع قد حصر الفتاة في نطاق سُلْطة الرجل وصار الأمر أسوأ من ذي قبل؟!
قديمًا، كانت الفتاة تنتظر من يطرق باب أبيها، واليوم، أمست الفتاة تقضي وقتها في البحث عنه، فعليها أن تهرب من فحيح الكلمات والسؤال البغيض (إمتى هنفرح بيكي؟).
انقلب الأمر رأسًا على عقب، ولم يعد كشف الوجه أو تغطية الرأس أو التعليم هو المشكلة التي تحتاج إلى مؤيد أو معارض، المشكلة أن المجتمع نجح في بث النقص في نفوس الفتيات، وصارت تتعرف إلى هذا وذاك بحثًا عن زوج، أيِّ زوجٍ، لا يُهِمُّ، فالأهمُّ أن تُصبِح حَرَم فلان! حتى المؤهلات، مهما علا شأنها فهي بلا قيمة، والمجهود ضائع إن لم يأتِ رجل ويمنحها القيمة الحقيقية عندما تحمل صفة زوجة، أي عبث هذا؟! وزورًا يسمى حرية!! حتى من تتنصل من ضغوط المجتمع وتضع الأولوية لدراستها وإثبات ذاتها في أي مجال وتسعى إلى تحقيق كيانها، تطاردها نظرات لو اهتمت بمظهرها، أو تُتهم أنها معقدة، وينصرف عنها الرجال، أو لا تجد -بعد تحرر عقلها- ما يناسب مستوى تفكيرها، وهي في الحقيقة لا تقاوم غريزتها التي فطرها الله عليها، لكنها تريد شريك حياة يناسب ما أصبحت عليه ويستطيع تحمل المسؤولية، ليكونا أسرة سوية، ذلك الوضع الذي أجبر الفتاة بشكل غير مباشر أن تختزل كيانها في موافقة شاب على الارتباط بها، جعلها لا تتقن أي شيء سوى سياسة “كيف تصطادين عريسًا”، حتى لو كان أقل منها علمًا وشأنًا، وهو أيضًا ما جعل الشاب يرى نفسه غير مضطر إلى السعي إلى الأفضل كونه مطلوبًا ومرغوبًا على أي نحو كان!
رحم الله شاعر النيل حافظ إبراهيم عندما قال:
الأمُّ مدرسةٌ إذا أعدَدْتَها أعدَدْتَ شَعْبًا طَيِّبَ الأعْراقِ
ويبدو أن الإعداد هنا اقتصر على إعداد طاهية وربة منزل فقط، حتى إنك تجد بعض الأسر تسعى إلى تعليم الفتيات للحصول على عريس بمميزات أفضل، لا لتحقيق نجاح شخصي للفتاة، ولأن أغلب الشباب يعاني قصر ذات اليد، وبحاجة إلى زوجة من حملة المؤهلات لتساعده على تحمُّل أعباء الحياة، ولك أن تتصور إلى أي حد تدنى ذلك الفكر بعقلية الفتاة ثم بالمجتمع ككل، فترى على مواقع التواصل الاجتماعي شابًا عابثًا تلتف حوله الفتيات أملًا في الفوز به عريسًا.
إن المجتمع بحاجة إلى تحرير الفتاة تحررًا حقيقيًّا من نظرة النقص، وإلى دعمها في تكوين كِيانها الخاص المستقل، لأنها قلب الأسرة وترس نجاحها الحقيقي، وعليه أيضًا أن يتوقف عن منح الشاب قيمة لا تتناسب مع قدره، فعليه أن يعمل ويعمل ويجتهد ليكون إنسانًا ناجحًا وأبًا جيدًا فيما بعد.
الزواج ما هو إلا مصنعٌ ينشأ بالشراكة بين اثنين، وعليك أن تجيد الصنعة لتحسين مستوى المنتج، كيف لفتاة قاصرة الفكر وشاب بلا رؤية أن يُربّيا طفلًا سويًّا يفيد المجتمع؟!
لا أظن أن أجدادنا قاموا بما قاموا به لمنح المرأة حريتها لتنزع عنها الحجاب أو تسرف في التبرج، أجزم أنهم أرادوا امرأة حرةَ العقل واعيةً تعرف ما لها وما عليها، ولا تأخذ من الحرية المظهر فحسب بينما هي مقيدة الأفكار والأحلام، إن الحرية كل الحرية تكمن في العقل الذي به تحدد أي طريق تسلك.
حرروا المرأة من بث النقص في نفسها، وكفوا نظراتكم المتخابثة أحيانًا والمشفقة أحيانًا أخرى، وكأن لا شيء خُلِقَتْ من أجله الفتاة غير أن تتزوج، ماذا لو لم تجد من يناسبها، أعليها أن ترضى بأي زوج والسلام؟ ويكون نتاج ذلك أسرة مفككة تدفع إلى المجتمع أطفالًا بائسين ومحدودي الرؤية؟ إذا وُجدت الفتاة صاحبة الكيان المستقل الواعية، حتمًا سيجتهد الشاب ليلحق بها، وقتها سنجد أسرًا سوية تنجب جيلًا واعيًا يرتقي بالمجتمع، ولن نسمع عن هؤلاء الشباب الذين يلهون بالفتيات، ولن نسمع عن فريسة سهلة يُغَرَّر بها، ولن نرى ما نراه من ابتذال في المظهر لجذب الأنظار، أو الإسراف في إظهار التقوى والتدين من غير أن يتحول ذلك إلى إيمان حقيقيّ، لقد أصبح الأمر حقًّا يستدعي وقفة، وتذكروا أن المرأة هي المدرسة التي تعد الغد، وصلاح المجتمع في تحرير عقل المرأة حريةً حقيقيةً.