كتب : حسن معروف
الفنان ليس مناضلا، ولا بهلوانا يحرك أطرافه وعينيه لإضحاك الجمهور، ولا حتى كاتبا يسجل وقائع الحياة اليومية، الفن روح وليس مادة، والفنان هو وسيط لنقل هذه الروح بين الناس، وإن لم يكن هو أول متأثر بها ما استطاع نقلها بأمانة، بل أصبح مجرد مدع ممن تعج وتغص بهم الساحات ثم تنفضهم أيادي الزمن ولا يبقى من ذكرهم شيء، فالفنان يجب أن يكون تجسيدا حيا لروح الفن، تلك الروح التي يستمد بقية البشر منها سمات طفيفة تمنحهم السلام الداخلي، ولا يعيب أي منهم في ذاته أن يكون تجسيدا للفن أو مجرد متأثر به، لكن العيب هو تخلي المتأثر عن وظيفته في المجتمع وادعائه الفن، تماما كتخلي الفنان عن رسالته وتحوله لشخص “عادي”، وعلى هذه الثنائية سار الكاتب والمخرج الألماني دونرسمارك في نسج أحداث فيلم “حياة الآخرين” الرئيسية، البطل هو فنان، يعبر عنه المخرج المسرحي جورج دريمان (سباستيان كوخ)، يطبق رسالة الفن في حياته العملية، يهتم بالمسرح وبالكتابة وبأصدقائه وبحبيبته، الإنسانية لديه هي رقم واحد، هادئ الطباع لا يميل إلى العنف والتهديد، يلتمس لحبيبته العذر في الخيانة، فهي إنسان تمر به لحظات ضعف، أو ربما رأت أن “جسدها” ليس أهم من حياة حبيبها المهددة، لكل حساباته، والخطأ والصواب أمور نسبية، فالبتر ليس حلا في حياة الفنانين، والعذر أقرب للتعامل مع الضعف الآدمي من البتر.
على العكس تماما نجد رجل الأمن، الذي يعبر عنه الضابط هابتمان جريد سبتلر (أورليش موهيه) فإن أي ضعف من جانبه يعني خلل يهدد حياة المواطنين، وأي إهمال قد يؤدي إلى انهيار الدولة مهما بدا الخطأ صغيرا، فهو الدرع الواقية، وعلى هذا يتدرب رجل الأمن ويقضي حياته، لا يجوز أن تمر من بين يديه هفوة، ينحي ضعفه الإنساني جانبا قدر المستطاع لأنه قد يكون مدخلا لأي مخطط تخريبي، منظور واقعي وحقيقي ومطلوب، الأزمة لا تنشأ من طبيعة الفنان وطبيعة رجل الأمن، الأزمة تنشأ من تقاطع الطبيعتين بدلا من تكاملهما، حين يبدأ الطرفان في الوقوف وجها لوجه أمام بعضهما، معضلة لا تحل في أطروحات، لكن يمكن حلها في فيلم مثل “حياة الآخرين”، الذي افترض تقاطع الحياتين وتبادل التأثير والتأثر، ثم مد الخط على استقامته وحصد النتائج، التي جاءت مذهلة.
أنتج فيلم “حياة الآخرين ـ The Lives Of Others” قبل 10 سنوات، كتبه وأخرجه الألماني فلوريان هنكل فون دونرسمارك، في إطار مشروع تخرجه، والذي فضل أن يكون فيلما روائيا طويلا بعد تفوقه في الأفلام القصيرة خلال دراسته في معهد التليفزيون والفيلم في ميونيخ، فاز الفيلم بجائزة أوسكار أحسن فيلم أجنبي عام 2007، واشتهر مخرجه منذ ذلك الوقت، وأخرج بعده بثلاثة أعوام فيلم “السائح” بطولة أنجلينا جولي وجوني ديب.
تدور أحداث “حياة الآخرين” في ألمانيا الشرقية بين عامي 1985 و1991، قصته ببساطة ليست بسيطة عن ضابط في جهاز الأمن الوطني توكل له مهمة التنصت على مؤلف ومخرج مسرحي وحبيبته الممثلة الشهيرة، وبعد فترة من المراقبة يتفاعل الضابط مع حياتهما، ويبدأ في التدخل فيها لحمايتهما بوازع إنساني بحت، لكن الممثلة تموت في حادث بسبب الأمن الوطني، ويعفى الضابط من مهمته، ويكتشف المخرج الحقيقة بعد سقوط سور برلين.
الفيلم يبدأ من المسرح، الذي تتجمع فيه كل الشخصيات المحورية التي ستنطلق في نسج العمل، وهي إسقاط قديم من فكرة أن “الحياة مسرح كبير”، وأغلب ألوان ديكورات هذا المسرح انتشرت في أماكن تصوير الفيلم بعد ذلك، وظهر المسرح مرة أخرى قبيل نهاية الفيلم وقد اجتمع فيه المخرج بوزير الثقافة الفاسد، الذي أخبره أنه كان تحت المراقبة طيلة هذا الوقت من قبل جهاز الأمن الوطني “شتازي”، فينطلق بعدها المخرج في محاولة لتفسير ما حدث، فاستخدام المسرح أعطى دلالات عديدة، الأولى أنه نموذج مصغر للحياة، والثانية أنه ضرورة مباشرة لمحاولة تفسير ما يدور حولك، والأهم أن الصالح والطالح يذهبان معا للمسرح ليكتشفا الحقائق، فلا تتوقع خلو مكان ما من الشر، كما يخدعك الشرير حينا، فمع الوقت سيحمل إليك حكمة تجهلها.
يأتي الموت دائما ثمنا للضعف، فالزمن يتحدانا ويفرض علينا العيش بقوة وبأس أمام صعوبات نصنعها بأنفسنا، فلولا نداء القومية وحماية الدولة ما تحررت أمم ولا نهضت أخرى، ولولا وجود الأمن لفتك بعضنا ببعض، لكن هذه الدرع التي خلقناها يوما لتحمينا من الشر، قد تتحول بسوء تصرف بسيط إلى حافظة خانقة تحجب الهواء، لهذا فإن موت الممثلة المشهورة كريستا ماريا (مارتينا جيديك) في حادث لحظة تفتيش الأمن بيت حبيبها لم يكن جزاء شهادتها عليه، فهي أدلت بالمعلومة بعد أن وثقت في المحقق الذي رأت الصدق في عينيه يوم التقاها مصادفة في حانة وطلب منها أن تتماسك ولا تخضع للابتزاز، حديثه معها وقتها كواحد من جماهيرها المحبة ردده مرة أخرى أثناء التحقيق فاطمأنت، لكنها ماتت بعد أن كانت قد ضعفت بالفعل وسلمت نفسها للوزير الفاسد ظنا منها أنها تحمي حبيبها، وفي الحقيقة هي قد قتلت مبادئها، وما تبقى منها طوال الفيلم لم يكن سوى جسد ستبليه الأيام عاجلا أو آجلا، ولم يكن ضعفها بالشيء المستتر مهما حاولت ستره، فالضابط الذي يراقبهما عرف، وزوجها عرف بعد أن نبهه الضابط بطريقة خفية، والمحقق الكبير ذو المنصب المرموق عرف، وفي مشهد عبقري قبل أن تركب سيارة الأمن الوطني بعد انتهاء التحقيق يدس المحقق في يدها عبوة أقراص منع الحمل، لينبهها أننا نعرف بسقطتك ونمنحك الستر أمام الناس ليس إلا.
نظرتان من عين ضابط الأمن، في أول الفيلم وآخره، لخصا غاية الفيلم، وقد نقلهما أورليش بأداء أقل ما يوصف به أنه عبقري، في بداية الفيلم نظرة ثقة جامدة آلية خالية من أية حياة أثناء التحقيق مع أحد المتهمين المزعومين، وفي نهاية الفيلم نظرة عطف وفخر وأسى مغرورقة بالدمع على آخر كتب المخرج دريمان، نظرة حية بها شعور تكون من مواقف وتفكير وتقرير وتحول هادئ من سيف بيد السلطة إلى وردة بيد الفن، فتقاطع طبيعة رجل الأمن مع حياة “الآخر الفنان” أكسبه صفات لم تكن موجودة به من قبل.
أما نظرة الفنان المخرج دريمان فهي نظرة مهمومة دائما، حتى في سعادته يتسلل هم المسؤولية إليه، فقد طلب من أصدقائه عدم إهدائه أي كتب، فهو يميني وأصدقاؤه يمينيون، وكتاب يعني تعرضه للاعتقال بسببه في دولة شيوعية، وهو فنان مسالم، أو يفضل أن يكون مسالما، فقد اكتفى بالحزن في كل ردود فعله، من انتحار صديقه بعد منعه من السفر حتى موت حبيبته بين يديه، لم يرفع شعارا ولا يمسك سلاحا ولا يقتص من أحد، الحياة بها ما هو أهم من الانتقام لدى الفنان، الحياة بها زاوية حزينة يلجأ إليها مفعما بالأحداث، ثم يخرج منها بقطعة فنية جديدة، فبعد شهوره بالتضييق الأمني كتب مقالة عقب انتحار صديقه تتحدث عن الانتحار في ألمانيا الشرقية، وشهر فيها بالنظام الحاكم، وأرسل بها إلى مجلة شهيرة في ألمانيا الغربية سرا مع أحد أصدقائه في كعب حقيبة، فأقوى وأقسى أسلحة كاتب ومخرج مثله هي الكلمة في مقال أو على المسرح، سلاح يخرج من رحم إحساسه فقط، ونتج عن تقاطع طبيعته مع طبيعة “الآخر الأمني”، على عكس رجل الأمن الذي يصنع أو يستورد سلاحه بأموال تكفي لسد جوع كل المشردين في العالم سنوات وسنوات، فالفنان يفاضل دائما بين الحياة والحياة، في حين يفاضل رجل الأمن دائما بين الموت والموت، ولك أن تتوقع نتائج اختيارات كل منهما.
التحول الأول في حياة رجل الأمن الصارم وتفكيره صُنع في مشهدين، الأول حين تنصت على حديث الممثلة مع حبيبها المخرج بعد أن رآها وهي تهبط من سيارة الوزير وتعدل ثيابها وفهم ما يعني هذا المشهد، وبعد أن أزالت مياه الاستحمام عن جسدها آثار نفوذ الرجل الغريب، تدثرت وطلبت من حبيبها أن يحضنها فقط، على مثل هذا تنتهي الأمور؟ سؤال أطل من عيني رجل الأمن ممزوجا بدهشة بالغة، تحول بعدها من متنصت يسجل كل كلمة وكل حدث ليرفع تقريره إلى رؤسائه إلى متفاعل ينتظر بشغف ما ستسفر عنه الأيام، وكيف يواجه المخرج والممثلة ضغوطات الحياة وعقباتها، بدأت تصحو بداخله روح جديدة، روح قلقة، تبحث عن إجابات لأسئلة عديدة طرحتها حياة هذين الغريبين، فأنتج له الزمن موقفا ليختبر مدى التحول، فذهب على الفور ليمنح الممثلة ثقته فيها كأحد جمهورها، وطلب منها نفس ما طلبه منها حبيبها، أن تفكر في حب الجمهور لها وفي شهرتها ومجدها ولا تهرب.
التحول الثاني حمل أيضا اختبارا أقسى من سابقه، فبعد شكوك حول فشله في مراقبتهما قرر رئيسه في العمل أن يسند إليه التحقيق مع الممثلة الشهيرة في مبنى الأمن الوطني، من أجل العثور على الآلة الكاتبة التي ستدين المخرج وتزج به في برودة السجن، وتتجلى عبقرية السيناريو في العبارة التي ألقاها له رئيسه في العمل “هذه فرصتك الأخيرة”، فعلى المستوى الأول كان يجب أن ينتزع اعترافا منها ليستمر في عمله، وعلى المستوى الثاني كان يجب أن يعرف مكان الآلة الكاتبة حتى يمحو بنفسه دليل إدانة المخرج بوازع إنساني تكون عبر عديد المواقف، وعلى المستوى الثالث كان يجب أن يحمل هذه الرسالة ضمنيا إلى الممثلة أثناء التحقيق، وبنظرة تملؤها حماسة من تصدى لغاية شريفة ثبت الضابط عينيه على الممثلة وطلب منها أن تعترف بمكان الآلة الكاتبة، فتذكرت كلماته في الحانة وربطت الأحداث وسرت في جسدها رعشة دفء واطمئنان طفيفة انتهت باعترافها له وهي تثق فيه لكنها لا تدري ماذا سيفعله على وجه التحديد.
الحياة لا تظلم أحدا، فما تقدمه من صبر ومثابرة يرتد إليك، هذه ليس مقولة مثالية بل هي وقائع ظهرت من أحداث الفيلم، فالخطأ في نتيجة أي مسألة حسابية يشير بالضرورة إلى وجود خطأ في الأرقام أو الخطوات، ومن الواضح أن الضابط فشل في مهمته الأمنية من وجهة نظر رؤسائه، فأحالوه إلى وظيفة صغيرة عبارة عن فض أظرف كل البريد الوارد إلى الدولة فقط، وليس حتى قراءة مافيها وتقييمه أمنيا، ما اعتبره إهانة عوضه عنها اعتداده بنفسه وفخره بما قدمه إنسانيا، بغض النظر عن المعيار الأمني للأمر، لكن في الحقيقة، هذه الوظيفة أنقذته من الفتك به بعد انهيار سور برلين، وأبعدته عن أي محاسبة سياسية عن فترة القمع الأمني التي سبقت انهيار ألمانيا الشيوعية، ومنحته سلاما على المستويين، الاجتماعي والداخلي، حتى بعد أن كشف المخرج شخصية الضابط الذي حماه من البطش، وتتبعه ورآه يوزع البريد على البيوت، لم يشأ أن يقتحم سلامه النفسي ويزعجه بالأمر، لم يشأ أن يمثل تقديم الشكر له نوعا من رد الجميل، فقد يقلل هذا من شعور الضابط السابق بالفخر أمام نفسه، واعتزازه في “التصدق الصامت” على الإنسانية، فأروع أعمال البر التي تجرى في الخفاء، هكذا رد المخرج الجميل للضابط السابق، الذي تركه ينعم بالحرية فتركه ينعم المخرج بفخره وسلامه النفسي.
الألوان التي تسيطر على الفيلم، الحائز على الأوسكار، 4 ألوان هي: بني وأسود وأبيض وأصفر، لم يظهر اللون الأحمر سوى في لقطتين، الأولى على شفاه عاهرة كانت برفقة المخبر ذات ليلة، والثانية هي لون حبر الآلة الكاتبة الصغيرة حديثة الطراز التي استخدمها المخرج في كتابة مقال الانتحار، والذي استخدمه الضابط ووضع به بصمة إصبعه في نهاية تقرير المراقبة قبل تسليمه، ومنها اكتشف المخرج من وراء الأحداث حين ذهب ليطلع على تقارير المراقبة الخاصة به بعد سقوط سور برلين. أما الأزياء فهي غريبة بعض الشيء، غالبا لم يرتد الأبطال سوى طاقم أو طاقمين طوال العمل، فستان الممثلة واحد في أيام مختلفة، كذا بدلة الوزير ولبس الضابط المدني طوال مشاهد المراقبة، وهو ما يمكن أن يعود إلى أمر من اثنين، الأول فقر ألمانيا الشرقية تحت الحكم الشيوعي، والثاني هو تقديم شخصيات الفيلم بشكل من لا تتغير هيئته كثيرا، ليفسح المخرج المجال للمشاهد حتى يركز مع التغييرات الداخلية باعتبارها الركيزة الأساسية للعمل.