الفرق بين البلشفية والشيوعية يتجلى عند التعمق في ماهية التنظيم السياسي والمجتمعي المتبع في إطار تطبيق كل منهما، ففي العلوم السياسية شهدنا الكثير من الأيدولوجيات التي تبنتها الدولة على قناعة منها بأهميتها في إصلاح المجتمع، وفي الواقع العربي نستفيض عن كثب بالحديث عن البلشفية والاشتراكية.
الفرق بين البلشفية والشيوعية
لا فارق جوهري بين مصطلحات مثل (البلشفية، الشيوعية، الماركسية، الاشتراكية) حيث ما بينها هو تفاوت في الأزمنة، وربما وفقًا لمتبنيها ومن أضاف إليها، وكلها أتت على النقيض من النظام الرأسمالي الاقتصادي والذي خرج من رحم الليبرالية كأيدولوجية داعمة له.. كما أن المعنى الدقيق للشيوعية غالبًا ما اختلط مع الاشتراكية في الخطاب السياسي.
في هذا تؤكد الماركسية على أن الاشتراكية ما هي إلا انتقال حتمي للوصول إلى الشيوعية، في ظل كون البلشفية تعبيرًا عن الأكثرية في جماعة الجناح اليساري من أنصار لينين في حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الروسي 1903، وفيما يلي نلقي الضوء على أهم ما يُمكن معرفته حول الفرق بين البلشفية والشيوعية على نحو مسترسل:
المقصود بالشيوعية
الشيوعية هي تلك الأيدولوجية ذات الطابع السياسي والاقتصادي، حيث تهدف إلى جعل الثروات الطبيعية في أي دولة ملكية الشعب بشكل عام، على الأقل وسائل الإنتاج الأساسية فيها، حيث تستبدل الملكية الخاصة التي تفرضها الليبرالية، لتكون مناهضة إياها، حيث لا تدع مجالًا للاقتصاد القائم على الربحية.
تعتبر الشيوعية من الأشكال المتقدمة للاشتراكية، على أنها كانت محط جدل وخلاف فيما يتعلق بالفارق بينها وبين الاشتراكية بمفهومها العام، لاسيما وقد استخدم بعض المفكرين المصطلح ذاته وكأنه على سبيل الترادف في مؤلفاتهم، هذا وقد شاع مصطلح الشيوعية في القرن التاسع عشر في فترة الأربعينيات.
إلا أن هذا لا ينفي وجود جذورها ممتدة إلى عصر المدينة الفاضلة.. العصر الأفلاطوني الذي طمح في مبادئها، وكرس فيها الحكام لخدمة مصالح العامة، فالملكية الخاصة من وجهة النظر الأفلاطونية ما هي إلا مدعاة للأنانية والشرور كافة، فلا تستتبع إلا دمارًا، وعليه لم تختلف الشيوعية عما نادى به أفلاطون.
اقرأ أيضًا: ما معنى الماسونية في الإسلام
كارل ماركس والفكر الشيوعي
عادةً ما ارتبط اسم الفيلسوف ماركس في أذهاننا بالشيوعية أو اللبنة الأولى في الاشتراكية، حيث كان على قناعة بأن المجتمع الأوروبي لا يُمكنه إصلاحه، فقط يجب أن يتم هدمه وإعادة بنائه على معتقدات وقيم من جديد.. الأمر الذي جعله متطرفًا راديكاليًا، فقد عزا ما آلت إليه البروليتاريا من سوء الحال والفقر في ظل ملكية وسائل الإنتاج لقلة قليلة، الأمر الذي جعله ساخطًا على الليبرالية وكافة من يدعمونها، وعليه عكف جاهدًا على بناء أسس فكرة الشيوعية، لجعلها أيدولوجية مناهضة لليبرالية التي تقوم عليها الرأسمالية.
كما تبعه مفكرين ليستكملوا إرثه في الشيوعية أمثال “فريدريك إنجلز” والذي ساق النظرية الماركسية بصورة أكثر صرامة وحتمية، لتكون “اشتراكية علمية”.. ولم يقف إرث ماركس عند المفكرين، بل تبعه من الثوريين الكثير أمثال لينين وجناحه البلشفي، وإنشائه للحزب الشيوعي الروسي 1917
تأثير الماركسية على النظام الشيوعي
وجد ماركس ضالته في فلسفة هيجل، وهي فلسفة مثالية عقلية تعتبر الفكر هو الأًصل في الأشياء، وحاول ماركس أن يُطبق تلك الفلسفة على التاريخ البشري لاسيما في الصراع الطبقي الحتمي بين البروليتاريا الكادحة والبرجوازية الطاغية، أما عن النظام الشيوعي فهو التطبيق العملي للفلسفة الماركسية إن صح القول، والتي كانت ترى أن السبيل الوحيد لضمان السعادة هو قيام مجتمع يكون فيه الكادحون في مركز السيطرة.
فلا تقبل الشيوعية كنظام حكم التعايش مع الرأسمالية، فالشيوعي بذاته لا يرى في المجتمع إلا صورة الصراع الطبقي، مركزًا فقط على أن التمايز ناجم عن امتلاك وسائل الإنتاج، فكانت النظرة مادية بحتة لا اعتبار فيها لأي معيار آخر.
اقرأ أيضًا: الصوابية السياسية والفن والسياسة
الثورة البلشفية
شق آخر في توضيح الفرق بين البلشفية والشيوعية فنذكر أن البلشفية هي اسم الثورة الروسية التي قامت 1917 والتي كانت تمثل المرحلة الثانية لها، قام بها البلاشفة بقيادة لينين، بناءً على أفكار كارل ماركس وامتثالًا لما جاءت به أفكاره عن الشيوعية، وكان غرضها إقامة دولة اشتراكية بإسقاط الحكومة المؤقتة.
لتعتبر الثورة البلشفية أول ثورة شيوعية في القرن العشرين، والتي أسفرت بدورها عن قيام الاتحاد السوفيتي والذي كان يمثل قوى عظمى بمواجهة الولايات المتحدة الأمريكية رمز الرأسمالية في العالم.
نجمت تلك الثورة عن سياسات الحكومة المؤقتة في روسيا، حيث الاضطرابات الاقتصادية والاجتماعية، الأمر الذي جعل هناك مجالًا للإضراب والاحتجاج، ليتم انضمام الشعب إلى القوات مشكلين قوة تطالب القيصر الروسي بالتنازل عن العرش، وبعد كثير من الأحداث حاز الحزب البلشفي على أغلب الأصوات في البرلمان، الأمر الذي خوّل للسياسي لينين زمام السلطة.
كانت أهداف البلشفية واضحة، فلم تكن ترعب إلا في القضاء على الرأسمالية الإقطاعية، وتحقيق الاشتراكية بمعناها المنطوي على المساواة العادلة والديمقراطية السالمة، الأمر الذي يرد للفلاحين والعمال حقوقهم المهدرة في ظل الرأسمالية المجحفة.
إلى أن آل العالم في القرن العشرين ليكون ثلثه تابعًا للشيوعية، حيث سياسة الحزب الواحد، الذي لا يتيح مجالًا قط للتعددية بأي صورة لها، علاوة على الاقتصاد الموجه إلى الملكية العامة لا الخاصة.. لكن لم تجنِ الشيوعية من ذلك إلا انهيار الاتحاد السوفيتي في نهاية المطاف 1992 وتفككه، لأن الشيوعية وصورتها الأحدث الاشتراكية لم تخلُ من الثغرات كنظام اقتصادي أو سياسي متبع.
الفكر الستاليني
يُنسب إلى “ستالين” والذي كان في قيادة الحزب الروسي الشيوعي وقد بدأ في تعزيز قوته أمام أخصامه قبل وفاة لينين، ليحل محله ويكون أبشع زعيم روسي على الإطلاق، فقد طهر الحزب في منتصف الثلاثينات، ونفى من يعارضه إلى سيبيريا، وأعدم آخرين، وتخلص من زملائه في السلطة، ليكون حاكمًا لروسيا في أجواء من الخوف والرهبة.
لا شك أن الشيوعية الستالينية اختلفت تمامًا عن الماركسية اللينينية، فقد اعتمد على المادية ليبرر أي عمل، كما أنه ركز الشيوعية في شخصه فقط، في ذات ستالين، ليكون بذلك مناقضًا للحاكم لينين الذي أراد تشكيل حكم نخبوي يحكم بالنيابة عن الشعب والعمال، إلا أن ستالين كان يركز على قيادته فقط، مما استتبع إلغاء الديمقراطية وتقديس شخصية القائد.
كما دعا ستالين إلى الاشتراكية في بلد واحد، حيث بناء قاعدة صناعية وقوة عسكرية لروسيا وإلغاء السياسة الاقتصادية الجديدة، مع التركيز على الدمج القسري في القطاع الزراعي، لتكون مزارع الفلاحين الفردية التي نصبها عليهم لينين مزارع جماعية، ليتحول الاتحاد السوفيتي من قوة زراعية إلى قوة صناعية.. حتى توفي 1953 وجاء ميخائيل جورباتشوف الذي أودى بالاتحاد السوفيتي في مهب الريح وكان آخر رؤسائه.
الشيوعية الصينية
ارتباطًا بحديثنا عن الفرق بين البلشفية والشيوعية نذكر أن القوة العظمى الوحيدة في العالم التي لا يزال يحكمها الحزب الشيوعي هي الصين، انتهاءً إلى دولة اشتراكية حديثة متطورة قوية اقتصاديًا في مصاف القوى العظمى المضاهية لقوة الولايات المتحدة الأمريكية.. فقد ركزت جمهورية الصين الشعبية على الماركسية اللينينية وأفكار ماوتسي تونغ، وهو أول زعيم شيوعي صيني والذي عني بتعديل النظرية الماركسية والبلشفية والشيوعية حتى تتناسب مع ظروف الصين.
حيث تختلف رؤية الصين عن رؤية ماركس الأصلية في عدد من النقاط، إلا أنها تتفق على الأساسيات، ومن الجدير بالذكر أن “ماوتسي تونغ” كان يطمح في مستقبل شيوعي مشرق للصين، إلا أنه انتهج سياسة تشابه “ستالين” في تقديس شخصيته كحاكم، لذا بمجرد وفاته انفكت السياسة الصينية عن طموحاته وبدأت بتجربة الإصلاحات في السوق الحرة، ثم الانفتاح على الخارج وتحقيق المزيد من الإنجازات الاقتصادية التي لا زلنا نشهدها في الصين إلى الآن.
مذهب الاشتراكية
ذكرنا الفرق بين البلشفية والشيوعية وبقي لنا أن نوجز القليل عن الاشتراكية رغم إشارتنا لها أعلاه، فهي تحديدًا ذلك المذهب الاقتصادي الذي يشكل الأساس الفكري لماركس، لكنها أقل عنفًا وتطرفًا عن الشيوعية، لأنها لا تمتد إلى الحد الذي توجه فيه المجتمع، فقط تعمل على توجيه السياسات الاقتصادية من خلال تقليل الفوارق الطبقية، والوقوف أمام الرأسمالية بمبادئها.
فتتفق الاشتراكية مع الشيوعية في ضرورة توزيع السلع والخدمات على الأفراد سواسية دونما احتكارها، هكذا اتفقا في الغاية، بيد أن وسيلة التطبيق كانت مختلفة بطبيعة الحال، حيث الاشتراكيون قبل ماركس كانوا يرون أن التوزيع يأتي بقدر مساهمة الفرد في العملية الإنتاجية ليكون شعارها “من كل حسب طاقته، ولكل حسب عمله” لكن ماركس وشيوعيته اقتضت أن يكون التوزيع على قدر الحاجة لا المساهمة، ليكون شعار الشيوعية: “من كل حسب طاقته، ولكل حسب حاجته“.
أكد تطبيق الشيوعية على أرض الواقع أن نظرية ماركس ما كانت نهاية حتمية لظلم الرأسمالية، بل كان نظامًا ظل مرتبطًا بالاستبداد.