استهداف العقل المصري محمد السنيمحمد السني

واصل الوهابيون طيلة تسعينيات القرن العشرين استهداف العقل المصري داخل الأزهر وخارجه، فلم يسلم أحد من نيران فتاواهم التكفيرية الإجرامية، وكان الهجوم أشد وطأة على العلماء الأزهريين النابغين والعقلانيين حتى وإن كان انتمائهم للإسلام الأصولي. وقد شهدت حقبة التسعينيات بروز نابغة أزهري، تميز بثقافة شاملة وقدرات فذة واستثنائية على التفكر والتأمل والكتابة القيمة والتي تميزت بالموضوعية والعقلانية على خلاف ما كان سائدًا آنذاك داخل تلك المؤسسة العريقة التي كانت تمر بأسوأ حالاتها على الإطلاق. وهو الفيلسوف والمفكر الإسلامي الكبير والعالم الأزهري الجليل الدكتور أحمد صبحي منصور. الذي لم ترق له أحوال الأزهر وما آلت إليه كافة أموره بعد السيطرة شبه الكاملة للتيار الوهابي الذي نمى وتغلغل داخل مؤسسة الأزهر بعد رحيل شيخ الأزهر الإمام الأكبر (محمد عبده) رائد العقلانية والتنوير داخل أروقة الأزهر منذ بداية القرن العشرين، وصعود خلفة شيخ الأزهر (رشيد رضا) صنيع الاحتلال البريطاني وعميل الوهابية السعودية كما أوضحنا سابقًا بشيء من التفصيل. وهاله أحوال الفقه والتشريع الذي خضع لأهواء ومصالح زعماء وأئمة المذاهب الإسلامية (السنة، والشيعة، والصوفية)، ولكنه لم يكتف بنقد تلك المذاهب وتفنيد الأسس التي بنيت عليها بل ذهب يتساءل عن دواعي نشأتها ووجودها وتقييم دورها السلبي فيما وصلت إليه أحوال المسلمين، وعن دورها في تغييب العقول، والانقسامات والمشاحنات والاقتتال الديني والطائفي والمذهبي المتفشي داخل المجتمعات والدول العربية والإسلامية. فقدم العديد من الدراسات الوافية والموضوعية بأسلوب علمي تاريخي حول المذاهب الثلاث، متسلحا بعلمه الغزير وتجرده وفصاحته وأسلوبه الفذ في الكتابة، وغزارة انتاجه الفكري القيم. مذكرًا المسلمين بأن الكتاب الوحيد الذي لم يأته الباطل من بين يديه ولا من خلفه هو (القرآن الكريم)، لأنه تنزيل من الرحمن الرحيم وتولى سبحانه حفظه بقدرته، فجعله المهيمن على ما سبقه من الكتب المنزلة التي لم تُحفظ مثل ما حفظ الله تعالى القرآن: “وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنْ الْحَقِّل ِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إلى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ(48)” – المائدة. من هنا رفع فضيلته راية (القرآن وكفى)، فمن لم يكفه القرآن فلن ينفعه غيره لينال رضا ربه، حيث يخبرنا المولى تعالى ويقول: “أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51)” – العنكبوت. وقال رب العزة جل وعلا: “فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185)” – الأعراف. “وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (49) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50)” – المرسلات. “تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6) وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (8)” – الجاثية. ومن هنا كانت دعوته المسلمين بأن يتدبروا في كتاب الله الذي هو الرسول والنبي لكل زمان ومكان، فما على المؤمنين الصادقين إلا أن يتدبروه ويستنبطوا منه (فقط) دينهم الذي ارتضاه الله تعالى لعباده. كما يفرق فضيلته بين المذاهب الإسلامية وبين الاتجاهات الفلسفية الفكرية في صدر الإسلام بقوله: “صحيح أنه ظهرت في العصر العباسى الأول فرق فلسفية وكلامية (أى من علم الكلام) تبحث وتختلف في العقائد، وصيغت فيها مؤلفات في (الملل والنحل) كتبها أبو الحسن الأشعري والشهرستاني وابن حزم وقبلهم المالطي، ولكن لا نعتبرها أديانًا أرضية كالسنة والتشيع والتصوف، لأن هذه الفرق وأشهرها المعتزلة والمرجئة لم تزعم الوحي الإلهي، أي لم تنسب أقوالها زورًا وكذبًا لله جل وعلا أو للرسول فيما يُعرف بالحديث القدسي والحديث النبوي. كانوا يقولون آراءهم وينسبونها لأنفسهم، ويجادلهم الآخرون على قدم المساواة، بلا تقديس لإمام وشيخ، وإعتباره إلهًا أو نصف إله، فظلوا في إطار الفكر البشري” الحوار المتمدن – العدد: 4643 – 25نوفمبر 2014م.

  • استهداف العقل المصري والتجريف الشامل

من بين أكثر الأعمال والمؤلفات التي تلخص محتوياته فكر فضيلة الشيخ الدكتور أحمد صبحي منصور، كتاب (القرآن وكفى)، المنشور سنة 1991، والذي تم حظره بعد إصداره مباشرة. في هذا الكتاب يدافع فضيلته عن فكرة طالما حاربها رجالات المؤسسة الدينية الرسمية، وهي الفكرة القائلة بأن القرآن هو المصدر الوحيد للإسلام باعتباره الحقيقة الوحيدة التي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، بينما الباقي عبارة عن آراء، فهو الوحي الوحيد الذي أُنزل على رسول الله، في شكل آيات وسور فيقول فضيلته: “إن القرآن كاف وحده، يفسر بعضه بعضًا، وقد فصل القول في كل شيء، فهو ليس بحاجة إلى أي نص آخر أو إلى حديث من أجل فهمه. إنه الحكمة بعينه”. في هذا الكتاب أجرى المؤلف مقاربة بين مصطلحي النبي والرسول. فالأول يمثل شخص محمد (ص) في حياته وفي أشغاله الخاصة وعلاقاته الإنسانية وتصرفاته باعتباره إنسانًا. لكن عندما يبلغ النبي (يتلفظ) القرآن، فهو مبعوث (رسول الله). إذن فطاعته المفروضة علينا، هي طاعة لله مباشرة، لأنه أول من آمن بما أُنزل إليه من ربه. لم يرد في القرآن أبدًا، طاعة النبي، “فالطاعة ليست لشخصه” لكن للرسالة أي لكلام الله. أما كلام محمد (ص) بصفته شخصًا ونبيًا والكلام الذي يتبادله مع أزواجه أو صحابته بصفته معلمًا، رب أسرة، قائدًا عسكريًا أو رجل دولة فإنها لا تكتسي أي صبغة من القداسة ولا تلزم المؤمنين في شيء. وهكذا فإن السيرة التي تنقل أفعال وحركات وأقوال النبي، فهي لا تُعتبر سوى تاريخًا: “يمتزج فيها الصدق بالكذب، ولا تعتبر بأي حال من الأحوال، جزءًا من دين الله. أما الوقائع التي أوردها القرآن، والمعلقة بحياة محمد (ص)، فهي صادقة، وتصديقها جزء من واجب التصديق بالقرآن”. ويُعتبر القرآن، بالنسبة إلى فضيلته الرسالة الوحيدة التي جاءت من عند الله، لم يقم الرسول سوى بتبليغها كما هي، لا أقل ولا أكثر. فهو التشريع الذي أراده الله للبشر ولا يحتاج إلى أي اجتهاد، ولو كان من قبل محمد نفسه الذي نزه نفسه عن القيام بذلك. غير أن الذي حدث تاريخيًا، هو أن الصحابة والتابعين والأئمة اجتهدوا في التفسير والإفتاء والتشريع. ثم خلفتهم أجيال أخرى، نسبت هذا الاجتهاد إلى النبي سعيًا في إكسابه طابعًا قدسيًا، وإلى ضمان انتشاره، ولم يلاحظوا بأن ذلك يتعارض مع القرآن. من هنا نشأت مصادر أخرى للمرجعيات الدينية، إلى جانب “كتاب الله”. وبالنسبة إلى فضيلته فإن هذه المصادر ليست لها أي علاقة مع الدين ولا مع القرآن الذي “لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه”. وحيث أن العلماء المزعومين لم يفلحوا في المساس بالنص القرآني، فقد لجؤوا إلى الكذب من خلال التفسير والسيرة النبوية، التي سميت (حديثًا). وفي الفصل الأخير الذي عنونه: “قراءة في البخاري”، الرجل الذي ألف أهم كتاب في المصدر الثاني للشريعة، تصدى فضيلته لنقده بانتظام، أولًا على فكرة وجود مصدر آخر في الإسلام، غير القرآن، ثم على كافة ألئك الذين يقولون بقدسية كتاب البخاري باعتباره مرجعية لكتب الحديث، ثم ضد البخاري باعتباره محدثًا، نظرًا لكون كتابه مليئًا بالسير، خاصة منها التي تتناول الحياة الجنسية لمحمد (ص) والتي أقل ما يقال عنها أنها قذف في شخص الرسول وتشويه لصورته. وبالنسبة إلى فضيلته فإن الخيار المتروك للمسلمين واضح: إما القيام بفضح الافتراءات والأكاذيب التي جاء بها البخاري، مدعيًا أنها أحاديث صحيحة، وإقامة الحد على ناقلها، باعتباره عدوًا لله ولرسوله وإما مواصلة تقديس كتاب البخاري وغض الطرف عن الشتم والمساس الذي يوجهه إلى كرامة محمد (ص).

 

تطرق فضيلته إلى الفتوحات العربية ووصفها بالتوسعات “الاستعمارية” وبالمخالفة لروح المسالمة والتسامح في القرآن. حيث كانت عصيانًا هائلًا لرب العزة جل وعلا الذي ينهي عن الاعتداء الحربى: “وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ” – 190 البقرة. كما كان الاحتلال العربي للبلاد المفتوحة وقهر أهلها واغتصاب نسائهم وسلب أموالهم وإرغامهم على دفع الجزية ظلمًا لا يرضاه رب العالمين: “وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ” – 108 آل عمران. “وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبَادِ” – 31 غافر. “وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ” – 140 آل عمران. فكيف إذا حمل هذا الظلم اسم الإسلام باعتباره (فتوحات إسلامية)؟. هنا أفظع الظلم لرب العزة قبل البشر.. ويوضح فضيلته كيف نشأت الديانات الأرضية، حيث كان باكورة تلك الأديان هو الدين السني الذي نشأ لتبرير وتشريع هذا الاعتداء الذي تحول إلى إحتلال مستمر ومستقر، وأصبح الدين السني ممثلًا للسلطة الحاكمة بسلطتها وعنفها وقسوتها وهيمنتها، فقابله أبناء الأمم المفتوحة بتأسيس ديانات أرضية أخرى – تحت رداء الاسلام – تنبع من ثقافتها الدينية المحلية، تواجه الدين السني للحاكم العربي القرشي المستبد، فتم تطوير (التشيع) السياسي في العصر الأموي ليصبح في العصر العباسي عقيدة دينية ودينًا أرضيًا يعيد العقائد الفارسية في عبادة إلهي الخير والشر في شكل (التبري) و (التولي)، أي تقديس وموالاة (علي وآل البيت) وتحقير وتكفير أبي بكر وعمر وعثمان…الخ، والتبرى منهم على أنهم آلهة الظلام والشر… ثم على هامش التشيع نشأ التصوف معبرًا عن الثقافة الشعبية المتوارثة في كل بيئة، يعيد إنتاج العقائد المحلية في لغة عربية وبأسماء ومصطلحات جديدة وبشخصيات مقدسة عربية وغير عربية، ويصل نسبها لآل البيت. ولهذا نجد الاختلافات في تعريف التصوف وإشتقاقاته ومصادره. ولكن بالقطع ليس الإسلام من بين مصادره لأنه نقيض للإسلام. ويؤكد فضيلته على أن التشيع قد أرسى للتصوف الأسس التي يقوم عليها، وورث التصوف عقائد التشيع ورسومه وتخفف من أوزاره السياسية، فبدأ حركة دينية تزعم الحب الإلهي (العشق الإلهي) لتخفي عقيدتها في (الحلول والاتحاد ووحدة الوجود)، ويتحول بها تقديس بعض البشر إلى تقديس الكون كله واعتبار هذا الكون جزءًا من الله جل وعلا وفق عقيدة وحدة الوجود الصوفية. وهذا التطرف في الكُفر العقيدي بدأ به رواد من الأعاجم، تتلمذوا على يد أساطين الشيعة، ف(معروف الكرخي) الرائد الصوفي كان نصرانيًا فأسلم على يد الإمام علي الرضا وهو من مواليه، وبعد (غسلامه) أصبح أول رائد صوفي. (ومعروف) هو أستاذ (السري السقطي)، الذي هو أستاذ (الجنيد) الملقب بسيد الطائفة الصوفية، وقد قال معروف لتلميذه السري: (إذا كانت لك حاجة إلى الله فاقسم عليه بي)، فأرسى بذلك قاعدة التوسل بالأشخاص وجاههم عند الله. وبدأ التصوف بذلك مشواره العقيدي. ثم دخلت الخلافة العباسية (السنية) في دور الضعف حين تحكم فيهم التركمان ومتطرفو السنيين (الحنابلة)، فاستفاد المتصوفة من ضعف العباسيين فتشكلت خلايا التصوف من شيخ ومريدين، وتمت الاتصالات بينهم فيما بين مصر والعراق والحجاز والشام عبر السفر وقد جعلوه شعيرة دينية باسم (السياحة الصوفية) واجتذبوا لهم العوام فدخلوا في التصوف أفواجًا… ومع ضعف الخلفاء العباسيين فلم تمر الحركة الصوفية الجديدة في بدايتها بدون رد فعل، فلاحقت الدولة العباسية (السنية) رواد التصوف بالمحاكمات والنفي والاضطهاد حتى اضطر الجنيد لأن يتبع التقية الشيعية، ويعلن أن (طريقنا منوط بالكتاب والسنة)، وفي نفس الوقت يدرّس التصوف في عقر داره بين المخلصين من تلاميذه وبعد أن يقفل باب داره (ويضع المفتاح تحت وركه) خوفا من أن يتهموه بالزندقة، ومع ذلك فلم ينج من الاتهام بسبب كلمة قالها مما جعله يتستر بالفقه (السنى) ويختفي، وحُوكم سمنون و ذو النون المصري وسهل بن عهد الله، وبلغ اضطهاد الصوفية ذروته بقتل الحلاج عام 301… ولا يزال الجنيد زعيما للمعتدلين من الصوفية بسبب ما اشتهر عنه إعلان تمسكه بالكتاب والسنة حتى أن من أنكر على الصوفية فيما بعد خدعته أقاويل الجنيد التي قالها بالتقية، فابن الجوزي (ت 597) يستدل بقول الجنيد السابق ويتخذه حجة على الصوفية الصرحاء الذين أعلنوا عقيدتهم فيما بعد في عصر ابن الجوزي نفسه… ومع ذلك فإن الأقوال القليلة التي حُفظت عن الجنيد تشي بعقيدته الحقيقية التي منع الخوف من ظهورها، فهو يرى أن العارف الصوفي هو (من نطق عن سرك وأنت ساكت) أي سن للصوفية ادعاء الكشف أو علم الغيب، وسُئل عن مصدره الذي يستقي منه أقواله الجديدة فقال لهم: “من جلوسي بين يدي الله ثلاثين سنة أسفل تلك الدرجة، وأومأ إلى درجة – سلم – في داره” فأرسى مقولة العلم اللدني والوحي. أي أن مسيلمة الحنفي ليس وحده الكذاب.!! فالتصوف المعتدل لا يفترق عن ادعاءات المرتدين كمسيلمة الكذاب غاية ما هنالك أن مسيلمة جاء في عصر قوة العرب القرشيين، أما “الجنيد” فقد جاء في عصر الوهن حيث ضعف العباسيين وقوة الشعوبية وتدهور العرب، حتى أن مصرع الحلاج زعيم الصوفية المتطرفين لم يتم إلا بدوافع سياسية أكثر منها دينية، وبعد محاكمة زادت على العشر سنوات. وبمرور الزمن تغيرت الظروف أكثر لصالح التصوف فتضاءل الإنكار عليه، وزاد انتشاره وبدأ يأخذ دوره في اضطهاد خصومه من الفقهاء السنيين في العصر المملوكي كما حدث لابن تيمية، فتبدلت الآية، وبدأت دورة أخرى من دورات الصراع الديني بين السنيين والصوفية.

  • بقلم الكاتب والباحث: محمد السني

قام فضيلته (على نفقته الخاصة) بنشر سلسلة من الأعمال الرامية إلى “هدم الأوثان”، وكان أولها هجومًا على الصوفية الأحمدية. فشن هجومًا على كبير “المرابطين” في مصر وهو سيد البدوي مولى طنطا. حيث حطم بالأدلة التاريخية، كلام ذلك “الرجل القديس” واصفًا إياه بمجرد مناور سياسي ذي توجه شيعي اعتنق الصوفية طمعًا في الفرار من القمع. موضحًا أنهم اعترفوا بربوبية الله وقاموا بعبادته ولكنهم أشركوا معه البدوي في التقديس والعبادة فاقتضانا المنهج العلمي أن نمحص عقيدتهم لنصل إلى من يفضلونه أهو الله تعالى أم هو البدوي لافتًا أنه اضطر لتبيين غلوهم لقيامهم بتأليه البدوي وعبادته، وأن النتيجة كانت “الصوفية يفضلون البدوي على الله تعالى”. وانتقد منصور من خلال موقعة الرسمي “أهل القرآن”، انتقد الصوفيين بأنهم زادت سطوة التصوف لديهم، فإن أحداً لن يوافقهم على هذا الإعلان الخطير فاكتفوا بالتلميح دون التصريح، ولجأوا للأسلوب غير المباشر برواية الحكايات وإلقاء الأشعار وبين سطور الحكايات وأبيات الشعر يعبرون عن مكنون عقيدتهم في البدوي الذي جعلوه فوق الله – تعالى عن ذلك علوًا كبيرًا ولتفضليهم البدوي على الله مظاهر كثيرة، نكتفى منها بما أورده الشعراني وعبد الصمد في “الطبقات” و”الجواهر”. موضحًا فضيلته أن الصوفية أضفوا على البدوي من الصفات ما يزيد عما جعله الله تعالى لذاته المقدسة، ومنها إن الله سبحانه وتعالى هو المسيطر على خلقه المتحكم فيهم الخالق لأفعالهم ومع ذلك فقد ترك للعبد مساحة من النية على أساسها يكون الثواب والعقاب فلم يشأ تعالى أن يتحكم في القلوب وحرية الإنسان في أن يؤمن أو يكفر “فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُر”. وانتقد منصور بأن الصوفية بالغوا في إسناد التصريف في ملك الله للبدوي فجعلوا له السيطرة على قلوب الناس أي يستطيع أن يحول المؤمن إلى كافر لمجرد أنه اعترض عليه فيستحق بكل بساطة أن يسلبه الإيمان كما ورد في الكرامة التي رواها الشعراني عن ابن اللبان والأسطورة الأخرى عن ذلك الشخص الذي أنكر حضور الناس لمولده: “فسلب الإيمان فلم يكن فيه شعرة تحن إلى دين الإسلام فاستغاث بسيدي أحمد فقال: بشرط أن لا تعود، فقال: نعم. فرد عليه ثوب إيمانه”. ولم يكتف فضيلة الشيخ الدكتور منصور بذلك بل درس ما توصل إليه من نتائج على طلابه في الجامعة، فثارت ثائرة الشيوخ ولم يسطتيعوا التوصل معه إلى حل وسط فتم تحويله إلى مجلس تأديب. وكان مجلس التأديب بقيادة فضيلة السيخ الدكتور محمد سيد طنطاوى ولم تفلح كل الحلول الوسط لإثناء فضيلة الشيخ الدكتور منصور عن آراءه وبعد مداولات من تهديدات وقطع مرتب تم عزله عن وظيفته في جامعة الازهر. وكانت هذه فرصة ذهبية لبقايا التيار الصوفي والتيارالسني الوهابي للانفراد بجامعة الازهر وإزاحة فضيلة الشيخ منصور عن السلك الجامعي. ولكنه خرج من الجامعة إلى الفضاء الرحب وخطب في المساجد وأقام ندوات ومناظرات مع أقطاب التيار السني وحقق بعض النجاح في إثارة بعض التساؤلات التي كانت تصل إلى الشيوخ وتظهر عجزهم عن الرد وضعف حجتهم. وحسب تصريح فضيلته (على موقع أهل القرآن)، بأنه عن طريق ممارسة الضغوط من قبل زعيمة العالم السني (السعودية) تم إلقاء القبض على فضيلتة وعلى 28 من رفاقه عام 1987 وأودعوا في السجن بتهمة إنكار السنة النبوية بهدف قلب نظام الحكم. فتم التحقيق مع فضيلته ففوجىء المحققون بالكم الهائل من الدلائل التي يقدمها تدعيمًا لآرائه فلم يستطيعوا مجاراته، فطلب المحققون العون من الشيوخ فهربوا من المواجهة، فتم الإفراج عن فضيلته ومن معه بعدما تعرضوا لحملة صحفية كان هدفها اغتيالهم معنويًا وجسديًا. فسافر فضيلته إلى أمريكا في أواخر الثمانينيات. وكانت مدة الرحلة عشرة شهورعاد بعدها إلى مصر. كان الحدث مناسبة لظهور مصطلح “القرآنيون”، لأول مرة، وقد ورد في تقارير الشرطة. لكن الصحافة فضلت استعمال وصف “منكرو السنة” وهي تهمة علقت بثمانية وعشرين من الأتباع الذين تم اعتقالهم مع فضيلتة. وبعد إطلاق سراحه من طرف العدالة، واصل مسيرته كمناضل مصلح وكباحث حر وهو ما لم ينقطع عنه إلى غاية اليوم. هكذا ومنذ عام 1988 دعي إلى الولايات المتحدة لأجل إلقاء سلسلة من المحاضرات في جامعات واشنطن وأريزونا وسان فرانسيسكو. وكان ذلك أول اتصال له بالعالم الخارجي. ومنذ أوائل التسعينيات بدأ حقبة جديدة من النضال كانت أرضيتها هي الملعب المدني من منظمات حقوق الانسان والمجتمع المدني والكتابة في الصحف والمجلات والدوريات وذلك لكي يتمكن من تكملة رسالته.

 

لم يثن التنكيل والعصف الذي تعرض له فضيلته عن مشروعه الفكري الذي حاول ومازال يحاول فيه تنقية الإسلام من الشوائب التي وُصم بها وهي ليست منه. وحاول مرارًا وتكرارًا بعقد مصالحة وتقريب وجهات نظر بين المسلمين وكل دول العالم، بل وقاتل من أجل تخليص ديننا من الجرائم التي تُرتكب كل يوم باسمهم حوله، من دين سلم وسلام إلى دين قتل وإرهاب. وفي كتابه (نشأة وتطور أديان المسلمين الأرضية) وفي الفصل السابع منه يوضح فضيلته أن هذا هو نهاية المطاف في عصرنا، عصر الحضيض. أسوأ دين للمحمديين (يجمع بين الكفر العقيدي والكفر السلوكي) يفرز أحط ما فيه (الوهابية)، ويكون هذا في عصر الديمقراطية وحقوق الانسان… دين السنة هو الأسوأ بين أديان المحمديين الأرضية… دين التصوف هو الأكثر تخمة بالخرافات، أي الأفظع في الكفر العقيدي. ولكنه مسالم ويعترف بحرية البشر وليس فيه إكراه في الدين. وعليه فالصوفي مسالم أي هو مسلم حسب سلوكه مع الناس. أما عقيدته فالحكم عليها مؤجل إلى يوم الدين شأن البشر جميعًا. دين التشيع مليء بالخرافات أيضًا، وهو يجنح للسلم الظاهري حين يكون تحت اضطهاد السنيين. ويختلف الحال حين يقيم له دولة، عندها ينافس دين السنة في استبداده وتوحشه وتسلطه. ولكن التشيع لم ينجح إلا قليلًا في إقامة دول له، لذا فهو أقل ضررًا. ويضيف فضيلته: ساد التصوف السني في العصرالمملوكي واستمر إلى أواخر العصر العثماني حين ظهر محمد بن عبد الوهاب الذي تشبع بفكر ابن تيمية، وقام مثله ينشر دين السنية الحنبلية، فتعرض مثل ابن تيمية للنبذ والاضطهاد، فتحالف مع أمير سعودي مجهول في بلد في (نجد) يُقال له (الدرعية)، وعقد إتفاقا معه عام 1745، يقوم بتكفير الآخرين وبناء على تكفيرهم يستبيح ابن سعود قتلهم واحتلال بلادهم. وبهذا تطورت إمارة الدرعية لتصبح الدولة السعودية الأولى، وينتشر دين سني متسلط دموي، إسمه الوهابية. خطورة هذا الدين الوهابي أنه أكثر تطرفًا من أصله الحنبلي. سيطر الحنابلة على الشارع العراقي في قرون من العصر العباسي الثاني. ولكن لم يصل ضحاياهم وقتلاهم عُشر معشار قتلى الوهابية. كان ما يفعله الحنابلة مألوفا يقع ضمن المناخ السائد في العصور الوسطى، عصور الظلام والاستبداد والفساد والمحاكمات الدينية الكهنوتية والحروب الدينية والمذهبية. الوهابيون ارتكبوا أضعاف أضعاف ذلك، ووصل ضحاياهم الآن في العالم كله بضعة ملايين، وهذا في عصرنا الحديث، عصر الديمقراطية والحرية وحقوق الانسان. الحنابلة في العصر العباسي مع تحكمهم الذي استمر قرونًا فلم يزعموا احتكار الإسلام، بل حتى لم يحتكروا لأنفسهم دين السنة. فظلت المذاهب الأخرى السنية (الشافعية والمالكية والحنفية) قائمة بذاتها تتنافس مع المذهب الحنبلي، بل كان المذهب الشافعي أكثر انتشارًا في بعض الأوقات وكان المذهب المالكي الأكثر انتشارًا في بعض المناطق. أما الوهابية في عصرنا فهي لا تزعم فقط الحديث باسم (أمة الإسلام) بل تزعم امتلاك الإسلام. وبهذا أصبح الإسلام ضحية للوهابية، واعتاد الناس في عصرنا نسبة شنائع الوهابية إلى الإسلام، وتسمية الوهابيين أعدى أعداء الإسلام بالإسلاميين، وصار عسيرًا تفهيم الناس بأن هؤلاء ليسوا (إسلاميين) وحركاتهم ليست (إسلامية). وصار سهلًا على من يكره الإسلام أن يستشهد بشنائع الوهابية. فإذا حاولنا نفي ذلك قيل لنا: ومن أنتم؟. ساعد على هذا عاملان أنه اصبح للوهابية دولة، ولم تكن للحنبلية دولة، وأن دولة الوهابية الايديولوجية سقطت مرتين وقامت ثلاث مرات، دون أن يحاول احد – قبلنا – مناقشة ايديولوجيتها الوهابية وإثبات تناقضها مع الإسلام، فظلت تزعم احتكار الإسلام، تقتل بإسمه وتنتشر بشرعه. وحين وقفنا ضد الوهابية كانت قد بلغت أقصى توسع لها بدولتها السعودية ودول أخرى تابعة للوهابية. وبالبترودولار وبالنفوذ السعودي في الغرب وفي بلاد العرب وبماكينة الإعلام الضخمة تم تحصين الوهابية من النقد. وحين تصدينا لنقدها عرفنا طعم السجن والتشريد، وتعرض جهدنا للتعتيم. ويضيف فضيلته: قلبت الوهابية المعادلة التي أرساها التصوف قرونًا من العصر العباسي الثاني إلى أواخر العصر العثماني. كانت المعادلة حرية الشعب في الانحلال وحرية الحاكم في الظلم والقتل والاستحلال. جاءت الوهابية بمعادلة جديدة صاغتها من تغيير المنكر والتكفير في الشريعة السنية الحنبلية. بتغيير المنكر يكون من حق الوهابي التدخل في حرية الآخرين وتغيير ما يعتبره منكرًا وفق تصوره. وبالتكفير يكون من حق الوهابي استحلال دم من يتهمه بالكفر واستحلال ماله ونسائه. مدار الأمر على ما لدى الوهابي من قوة. إذا كان حاكمًا فالوهابية بتكفيرها وبشريعتها في تغيير المنكر – في طوعه ومتناول يده. إذا كان خارجًا على الحاكم الوهابي فله نفس الحق في تكفير الحاكم وفي اعتباره منكرًا يجب إزالته. والعبرة بالقوة وبالمقدرة على فرض الاستحلال وفرض تغيير المنكر. وبهذا تنتشر حمامات الدم بفعل الدين الوهابي، خارج وداخل الدولة الوهابية، وتظل الوهابية تبيح للحاكم الوهابي ولخصومه حق التكفير وحق تغيير المنكر. لم يعد الحاكم – كما كان من قبل – صاحب الحق في الاستحلال وفي القتل وفي الظلم. نشرت الوهابية (اشتراكية) تبيح للجميع استحلال قتل الجميع واستحلال ظلم الجميع، وتبيح للجميع المزايدة على الجميع. أي نشرت وباءً من الفتن ينتشر ومعه حمامات الدم باسم الإسلام، بحيث يرتكبون القتل وهم يهتفون (الله أكبر) يحسبون انهم يحسنون صنعا. ويضيف فضيلته: القاتل العادي (العلماني) قد يتوب، وقد يشعر بتأنيب الضمير، أما القاتل الوهابي فهو يعتبر قتله للناس عبادة يستحق من أجلها جنات النعيم، وإذا مات يعتقد أنه تنتظره الحور العين. وفي حوار لفضيلته مع جريدة (شبكة مصر 24)، وحول سؤاله: صرحت في مقالاتك بأن الدين الإسلامي هو دين علماني كيف ذلك؟. فأجاب فضيلته: علمانية الإسلام في أنه لا توجد فيه مؤسسة دينية أو كهنوتية ولا واسطة بين الخالق والمخلوق، ولا تقديس فيه إلا لرب العزة جل وعلا بما يعني المساواة بين البشر جميعًا بإعتبارهم مخلوقات الله جل وعلا. يكفي أنه في الإسلام لا مجال فيه لاستغلال الدين في السياسة كما أثبتنا في كتابنا (تحذير المسلمين من خلط السياسة بالدين). وقلنا في مؤلفات عديدة منها (الشورى الإسلامية) أن الدولة الإسلامية مؤسسة على الحرية المطلقة في الدين والديمقراطية المباشرة، وأن وظيفة الدولة في الإسلام هي خدمة المواطن وليس هدايته وإدخاله الجنة، لأن الهداية مسئولية شخصية ومن اهتدى فلنفسه ومن ضل فعليها، وكل فرد مسؤول عن دينه أمام رب العزة يوم الحساب، وأن المسلم في الدولة الإسلامية هو المواطن المسالم بغض النظر عن دينه وعقيدته حتى لو كان يعبد الأصنام. ولهذا كان المنافقون في دولة الإسلام في عصر الرسول عليه السلام مواطنين تمتعوا بالسقف الأعلى في المعارضة السلمية والدينية، برغم أن الله جل وعلا توعدهم بالدرك الأسفل من النار.

 

في كفاحه ضد الإرهاب الوهابي المسمى بالإسلامي فتح النظام المصري لمنبوذي الأزهر عددًا من منابره، واستقبلت دار نشر “أخبار اليوم”، في سلسلة منتخباتها التي أطلقت عليها “كتاب الأيام” كتابًا لفضيلة الشيخ الدكتور منصور تحت عنوان “مصر في القرآن” في سنة 1991. ارتبط فضيلته بصداقة مع الدكتور فرج فودة الذي أعلن عن طلاقه من حزب الوفد بسبب تحالفه غير الطبيعي مع الإخوان المسلمين، وحاول تأسيس “حزب المستقبل” وهو حزب جديد يدعو صراحة إلى الدولة المدنية. انضم فضيلتة إلى نشاطه فشرع الرجلان في كفاح شرس ضد الوهابيين بكافة مدارسهم. الأمر الذي كلف فودة حياته كما أوضحنا سابقًا بشيء من التفصيل، في حين انضم فضيلة الشيخ منصور إلى المثقفين المصريين مناصري التنوير الذين استغاثت بهم الدولة لمجابهة التيار الوهابي الظلامي الإرهابي. ويعد منصور من بين مؤسسي الجمعية المصرية من اجل التنوير حيث أصبح أمينًا عامًا لها (من 1993 إلى غاية 1998). تعاون دوريًا في مجلتها (التنوير) حيث نشط منتدى شهريًا. في هذه الفترة بالذات، سلك مسارًا جديدًا كمستشار لدى عدد من الجمعيات التي شهدت نموًا مضطردًا، وكانت ملتزمة بمهمة مواجهة ومكافحة التطرف الديني والعنف الناجم عنه والدعوة إلى التسامح والتعايش السلمي وحسن الجوار بين الطوائف، وإلى الفصل بين الدين والسياسة، وكانت أيضًا ملتزمة بالدفاع عن حقوق الإنسان والمواطن وترقية المرأة وملتزمة أخيرًا، بكشف انحرافات الدولة في حربها ضد “الإرهاب”. كان منصور حاضرًا في كل المعارك يشتغل مع مختلف الهيئات مثل جمعية ابن خلدون الدولية والطريقة الدينية الدولية والجماعة المدافعة عن الديمقراطية، والمنظمة المصرية للدفاع عن حقوق الإنسان والتي أصبح عضوًا مستشارًا فيها ما بين 1994 و1996، وأخيرًا الحركة الشعبية لمكافحة الإرهاب، ويتمثل نشاطها في تقديم يد المساعدة لضحايا العنف الممارس من قبل “الإرهابيين الوهابيين” في الصعيد. خلال هذه الفترة أصدر فضيلته ثلاثة مؤلفات تتناول أحداثا ساخنة من قضايا الساعة: (حد الردة) حول عقوبة الردة في الإسلام، و(حرية الفكر في منظور الإسلام والمسلمين)، وأخيرًا دراسة تتناول (أسس تاريخ الحسبة). والحسبة مفهوم قديم في التشريع الإسلامي يقضي بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والذي أُعيد إحياؤه من طرف المحامين المتأسلمين من أجل تبرير المتابعات التي يقومون بها ضد كافة الأفكار والآراء التي يعتبرونها كافرة وضالة. وانطلاقا من سنة 1996 تطورت علاقات منصور مع سعد الدين إبراهيم مدير أول مركز مصري ضمن سلسلة المنظمات والجمعيات التي ستشكل ما يسمى: الفاعلون في المجتمع المدني، وهو مركز مخصص لدراسة وترقية المجتمع المدني بمصر وفي مجمل العالم العربي: “مركز ابن خلدون من أجل التنمية”.. اشتغل فضيلتة بالدفاع وترقية حقوق الإنسان والديمقراطية والأقليات الإثنية والدينية وبنشر قيم التسامح والعلمانية واشتغل أخيرًا بمراجعة نقدية للمناهج المدرسية، حيث تعشش ما يمكن تسميته بمصادر وأصول “التطرف الديني”. بطبيعة الحال وجد فضيلته مكانه الطبيعي في هذا المشروع الواسع، بصفته متخصصًا في الفكر الإسلامي ومنشطًا للندوات الفكرية. وفي يناير 1996 أصبح مسؤولًا عن برنامج محاضرات ومناقشات سمي “رواق ابن خلدون” حيث يلتقي عشرات المفكرين والمثقفين من كل حدب وصوب، في مواجهات فكرية أمام جموع غفيرة، طيلة أزيد من أربع سنوات. يتم التطرق أسبوعيًا، دون أية قيود أو محظورات، إلى أكثر المواضيع تنوعًا، مع تنشيط أكثر النقاشات تقدمًا، نقاشات تتعلق بالدين، بحرية الفكر، بالفقه، بالشريعة، بالعلمانية، بالإصلاح الديني والأخلاقي، بتنظيم السلطات، بالعلاقة بين المجموعات الدينية والطائفية، بحقوق المرأة، وبالتعليم المدني والديني. كان منصور هو المحرك المكلف بتنشيط الندوات وطرح الإشكاليات. نجا فضيلته بأعجوبة من القمع، بعد اعتقال الدكتور سعد الدين إبراهيم في يونيو 2000 وغلق مركزه. جلبت له نشاطاته المتعددة الأشكال متاعب أمنية تزايدت شدة وحدة. ليتمكن في آخر المطاف من الذهاب إلى الولايات المتحدة في أكتوبر 2001 وغادر مصر نهائيا. وأثناء تواجده في المنفى الأمريكي وجد في مواقع شبكة الإنترنت منابر عديدة له.

 

يؤكد فضيلة الشيخ الدكتور أحمد صبحي منصور أن ما أتى به الإسلام هو القضاء على الدولة الدينية وليس تثبيتها وإقامتها. لذلك، كانت دولة محمد (ص) دولة علمانية ديمقراطية، لا تزال ملامحها في القرآن الكريم واضحة. فليس في الإسلام كهنوت أو مؤسسة دينية أو رجل دين. هذا مع أن المسلمين أقاموا كهنوتًا ومؤسسات دينية ودولًا دينية (كتابه: جذور الإرهاب في العقيدة الوهابية) – ص 147. وبالرغم من أن هناك اختلافًا بين علمانية الإسلام وعلمانية الغرب، فكذلك هناك فوارق كثيرة بين العلمانيات الغربية نفسها، مابين العلمانية التي تنكر الدين جملة وتفصيلًا، وتعتبر الدين أفيون الشعوب، وبين العلمانية المنفتحة على المسيحية. فهذا يبرر بالضرورة وجود اختلاف بين علمانية الإسلام وعلمانية الغرب، ما دام الخلاف حاصلًا داخل العلمانيات الغربية نفسها. فالتحول الذي حصل في بنية العلمانية الإسلامية، حدث أيام الصحابة بعد وفاة الرسول الكريم، وتأسيس الدولة الأموية التي أرست معالم الحكم الاستبدادي القبلي. وفي الملحق الرابع، يبحث فضيلته في الإخوان والاستبداد والديمقراطية، ويؤكد على أن التحليل السياسي للحركة الدينية يكون قاصرًا حين لا ينفذ إلى الجذور، فالحركات الدينية المنتمية للإسلام كلها حركات تراثية، ولا بد في بحثها من العودة إلى الجذور العقدية والتاريخية – المصدر السابق ص 173. وفي مقالة له بموقع الحوار المتمدن العدد: 5486 – في 9 إبريل 2017، يعقد منصور مقاربة بين الاستبداد العلماني والاستبداد الديني فيقول: لا وجود للسياسة في النظام الاستبدادي. شعاره إما أن نحكمكم وإما أن نقتلكم. نفس المعادلة الصفرية (نكون أو لا نكون / صراع الوجود / الاستثار بالكعكة كلها). هذا هو الاستبداد العلماني.. الأسوأ من هذا الطغيان (الاستبداد السياسي العلماني) هو (الطاغوت)، والطاغوت في المصطلح القرآني هو الكهنوت الذي يصطنع بالوحي المزيف دينًا أرضيًا. لو كان هذا الدين مؤسسًا على العنف والقمع والتسلط والاستبداد ووصل الحكم فنحن أمام دولة دينية أشد ظلمًا وإستبدادًا من الطغيان العلماني العادي. الطغيان العلماني العادي يزعم لنفسه احتكار الحكم في الدنيا فقط، أما الدولة الدينية فتزعم أنها تتحكم في الناس في الدنيا والآخرة. المعترض على المستبد العلماني قد يتعرض للقتل وربما للسجن، ويظل عقابه دنيويًا فقط. أما في الدولة الدينية فالمعترض عليها دينيًا أو سياسيًا هو كافر مرتد لا بد من قتله مع الحكم عليه بالخلود في النار، حيث لا يقتصر المستبد الديني الحاكم على سلب حقوق الناس في الدنيا بل يسلب رب العزة جل وعلا سلطانه في الآخرة أيضًا. وإذا كان الشعار العملي للمستبد الطاغية العلماني هو (إما أن نحكمكم وإما أن نقتلكم) فالمستبد الديني الطاغوت شعاره إما أن نحكمكم ونتحكم فيكم وإما نقتلكم وندخلكم جهنم. الطاغية المستبد العلماني يظلم شعبه فقط، أما المستبد الديني الطاغوت فهو يظلم الناس ورب الناس.. لذا يجب منع الإخوان المسلمين وسائر التنظيمات السياسية الوهابية من المشاركة السياسية لأنها لا تؤمن بالسياسة اصًلا وتعتبر الديمقراطية كفرًا، وقد تعتبرها سلمًا للوصول إلى السلطة فإذا وصلتها بالانتخابات (بعد غسيل مخ الجماهير) استبدت بالحكم مع أول فرصة، كما حدث في انتخابات الجزائر وفي انتخابات فلسطين وظهور حماس. خلط الدين بالسياسة لا بد من منعه منعًا باتًا وجازمًا وحاسمًا في العمل السياسي حتى يكون التنافس السياسي على أرضية واحدة يتساوى فيها الجميع، فمن الظلم للناس ورب الناس جل وعلا أن يزعم فريق سياسي أن (الله جل وعلا) تابع له يؤيده ويخاصم الآخرين – تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا. وفي حوار أجراه موقع (رصيف 22) مع فضيلتة في 3 فبراير 2017.. وحول سؤاله: هل هناك تناقض بين الإسلام والعلمانية؟ وهل يمكن تغيير أحكام الشريعة الإسلامية لتتلاءم مع العصر الحديث كما يقترح البعض؟. فأجاب فضيلته: الإسلام دين علماني، لا مكان فيه للكهنوت والسلطة الدينية، والإسلام هو ضد استغلال الدين، أي دين، في السياسة، والشريعة الإسلامية الحقيقية هي الشريعة القرآنية، التي تتناقض مع تشريعات الفقهاء، السنيين خصوصًا. كتبنا في هذا مئات المقالات، وعشرات الكتب بالعربية والإنجليزية، منها عن الحرية الدينية المطلقة في الإسلام، وتناقضها مع دين السنيين، ووظيفة القضاء بين الإسلام والمسلمين، والشورى الإسلامية بمعنى الديمقراطية المباشرة. بالإضافة إلى كتب عن النسخ والتأويل و”هجص” مالك في الموطأ و”هجص” القرطبي في التفسير، بالإضافة إلى برنامجنا، فضح السلفية، وفيه توضيح التناقض بين الإسلام والسلفية في أمور شتى، منها زي المرأة وزينتها. وحول سؤاله: هل مؤسسة الأزهر قادرة على تجديد الخطاب الديني؟ وهل هناك مَن يمكنه أداء هذه المهمة بشكل أفضل؟. أجاب فضيلته: تحدثت عن الأزهر في ندوة منذ التسعينيات بعنوان “الأزهر والتنوير”، وكان محور حديثي جوابًا عن سؤال: لماذا يتخرج في الأزهر أئمة الإصلاح ويظل الأزهر مع هذا قلعة التخلف؟ كانت الإجابة هي في التناقض بين القرآن والتراث، وهما معًا عمودا المؤلفات في الأزهر. إذا أسلم الأزهري عقله للقرآن، أصبح متمردًا وإمامًا تنويريًا مثل محمد عبده وطه حسين والتهطاوي إلى حد ما. وإذا أسلم نفسه إلى التراث، سار في قطيع الغالبية من الشيوخ. وفي كتابنا “دين داعش الملعون” دعونا لإصلاح الأزهر، لأنه بوضعه الراهن عبء على مصر، يعيق تقدمها ويهبط بها إلى الحضيض.

 

ألف فضيلة الشيخ الدكتور أحمد صبحي منصور قرابة ثلاثين مؤلفًا، منها عشرة لم تنشر حسب تصريحه على موقع أهل القرآن، كما نشر حوالي خمسمائة مقالة، في مختلف المنابر من أكثرها رسمية إلى أكثرها تصديًا لتهدم التماثيل.. فألف (السيد البدوي بين الحقيقة والخرافة) – 1982، و(البحث في مصادر التاريخ الديني) 1984. و(شخصية مصر بعد الفتح الإسلامي) – 1984. و(التاريخ والمؤرخون) دارسة في المادة التاريخية – 1984. و(أسس البحث التاريخي) – 1984. و(غارات المغول والصليبيين) – 1985. و(العالم الإسلامي بين عصر الخلفاء الراشدين وعصر الخلفاء العباسيين) – 1985. و(حركات انفصالية في التاريخ الإسلامي) – 1985. و(دراسة في الحركة الفكرية في الحضارة الإسلامية) – 1985. و(الأنبياء في القرآن الكريم) – 1985. (المسلم العاصي هل يخرج من النار ليدخل الجنة) – 1987. و(الصلاة بين القرآن الكريم والمسلمين ) – 1997. (مصر في القرآن الحكيم) – 1990. و(حقائق الموت في القرآن الكريم) – 1990. و(القرآن وكفى مصدرًا للتشريع) 1990. و(حد الردة) 1993. و(حرية الرأي بين الإسلام والمسلمين) – 1994. و(عذاب القبر والثعبان الأقرع) 1994. و(قضية الحسبة) – 1995. و(النسخ في القرآن معناه الكتابة والإثبات وليس الحذف والإلغاء) 1997. و(مقدمة ابن خلدون دراسة أصولية تاريخية) 1998. و(العقيدة الدينية في مصر المملوكية بين الإسلام والتصوف) 2002. و(الحياة الدينية في مصر المملوكية) – 2005. من النصوص المتوفرة بالإنجليزية في موقع آهل القرآن: الإسلام دين السلام. وحق المرأة في رئاسة الدولة الإسلامية. وحرية التعبير في الإسلام. والتاريخ الإسلامي بين الديمقراطية والاستبداد. والتناقض بين الدولة الإسلامية والدولة الدينية. الحسبة في الإسلام. كما نشر فضيلته مقالات وأبحاث هامة وقيمة في العديد من الجرائد مثل الأخبار، الجمهورية، روز اليوسف، الأهالي، العربي، الناصري، الميدان، الأحرار، والأهرام الأسبوعي. ومجلات القاهرة، إبداع، سطور، حواء، رواق، عربي والحوار المتمدن.