دراسة: حسن معروف
منطقة عظيمة من المسكوت عنه، تغشاها محمد علاء، فحملت حملا خفيفا فلما أثقلت أنجبا روايته “كلب بلدي مدرب”، راصدة بحرفية ناقدة وأسلوبية ساخرة جيلا بأكمله، ذلك الجيل الذي ماضيه القريب مسرحية العيال كبرت، وحاضره مسلسل ليالي الحلمية، وصنع مستقبله بيده في صوت ثائر قوي قادر مستمر، يفند كل ما مرّ عليه بحيادية شديدة، يتخير منه المناسب ويترك ما لا حاجة له به.
العنوان “اسم جنس شائع” قبل أن أقرأ الرواية فكرت في مفارقة عنوانها كثيرا، كيف لـ كلب بلدي أن يكون “مدرب”، لازمني السؤال حتى نهايتها، جذبني أول مقطع الذي يعبر عن موتيفا “الدَخلة”، أو الموسيقى التصويرية التي تسبق خروج البطل إلى مسرح الأحداث، والمستوحاة، كما ستوضح الرواية، من دقائق الموسيقى التي تميز بها تتر الأفلام الإباحية في السبعينات والثمانينات، التي تشترك فيها “الدرامز” مع “بيز جيتار”.
“نيفين”، أو “Nymphomaniac”، أي “عاشقة الجنس”، كما وصفت، تفتتح الرواية بطلة مشاركة ومحورا ماديا لتفكير جيل بأكمله، بدءا من جسدها الشهي الذي تحافظ به على متعتها الخاصة والوحيدة تقريبا، وانتهاء بترحتها “الإسبانش”، التي تحافظ بها على تقاليد المجتمع، تعتبر المرآة التي ينعكس على سطحها كل ما يتعلق بهذه المنطقة الجنسية في عمر جيل، هي ممن ألقتهم حقبة ما في الخليج العربي، عادت
لتمارس ما حرمها منه الواقع واسترعى خيالها، بل واستحوذ عليه حتى أصبحت “صاحبة نظرية في الرجال”، تتقاطع مع “علاء” أو “اللول”، المخرج العبقري الذي يرى “روميو وجولييت” مجرد “عملوها العيال ووقعوا فيها الكبار”، والذي اتجه به المجتمع وبعبقريته لتصوير مقاطع رقص شرقي لأمثال “سوسن”، يتقاطع الثلاثة مع “عبد الله” المدمن، في طريقهم للانتقام من “علي لوزة”، نموذج الشاب البلطجي ابن الرجل الميسور الحال، الذي لا تعني له البلطجة سوى “السيطرة”، وفق ما هداه مستواه التعليمي الذي يساوي “صفر”، تنتهي الدائرة المغلقة على الجميع بعنوان الرواية، حين يصبحون كلابا بلدية مدربة جيدا على حياة الشارع، وإن كنت من هواة أفلام “الأكشن” الأمريكية التي حطت على الشرق من “طبق طائر”، أو طبق فوق أي سطح منزل، يمكنك أن تطلق على حياة هذه الكلاب المدربة “العالم السفلي”.
البناء الدرامي: مجتمع يتسع لجميع “الكلاب”
يقطع محمد علاء المجتمع عرضيا، يلقي الضوء برشاقة، مكنته منها خفة ظله، على كل طبقاته، لكن الرواية لم تعمد إلى ذلك، بل سيقت إليها استدعاءات استقرت في ذهن الجيل الموصوف رغما عنه، دفعت بالعمل إلى منطقة ذات ألوان ثلاث، موزعة بين القارئ المصري والعربي وغير الناطق بالعربية.
أنشئت المفارقة في الشق الاجتماعي، كما لم تعمد الرواية، على طرفين، هما الواقع المعاش والمفترض، جميع شخوص الرواية والعابرون فيها لا يتطابق واقعهم مع المفترض أن يعيشوه وفق بياناتهم الاجتماعية، وجاءت الرواية عبارة عن المسافة بين الطرفين، مستوعبة الحقبة الثمانينية والتسعينية وحتى بداية الألفية الثالثة، بالارتكاز على توظيف كل مفردات الحياة الجنسية المراهقة، المهملة الذكر خالدة الأثر، في نقطة إبداع يتميز بها جيل الراوي، ونقدا للماضي بحيادية تمهيدا للتطوير يتميز به الراوي بين جيله.
صنعت المفارقة الكبرى بحرفية شديدة من عدة مفارقات صغيرة ضمت إلى بعضها في سرد خفيف سريع قوي مثل نقر أزرار الكمبيوتر، ممارسة الجنس في سيارة على طريق خال، قدرته على الكتابة الإبداعية وعرض كتابة محتوى جنسي، وفاة جدته وتفكيره يوم الدفن في أنها أحكمت حسبة الجنيه، هو بالفعل لا يفكر سوى في “حسبة الجنيه”، حسرة عمر الخالة التي تمثلت في أسعد أخبار مراهقته، عبد الله المدمن التائه وشريك الذاكرة القوية في تفاصيل الحياة السرية، اختيارية الاغتراب، نهاية بـ علي لوزة الذي يصر على تصدير قيمة “الجدعنة” في الوقت الذي يسلب فيه أموال النساء اللاتي يمارس معهن الجنس.
الشكل الدرامي دائما ما يحكم السرد أيا كان، والخروج عليه مجازفة أو تطوير، ولا يمكن إغفال الرشاقة السردية في تقييم دراما الرواية، التي تقفز كلماتها على حروف المعاني قفزا متساويا، “كان العجوز يمتلك (كل) مستلزمات المواطن (من) ملابس
قماشية (و) تشكك دائم”، لو فكر غير كاتب الرواية في وصف الرجل بالمعنى ذاته لقال مثلا “كان العجوز شأنه شأن أي مواطن يمتلك ملابسا قماشية (و) تشككا دائما”، فالاسم الجامع (كل) أقصر وأقوى من الجملة الاعتراضية (شأنه شأن)، والتركيب الإضافي (مستلزمات المواطن) ألصق وأدق من التركيب الإضافي (أي مواطن)، و(من) التي لبيان الجنس قصرت الوصف على المظهر عكس الفعل (يمتلك) الذي أحال الوصف إلى واحد من متعدد، وساهمت (من) أيضا في القفز الرشيق على (و) الجمع، مع “التشكك الدائم”، الذي يمثل الباطن الطبيعي للمظهر، وقِس على ذلك في غير موضع بالرواية، تطلبت فيه الدراما التطوير في السرد وليس السرد الدرامي لذاته.
ينضم إلى ما سبق العبارات النقدية الموجزة، فالروائي عموما يسقط بين الإسهاب في قضايا فرعية، أو تجاوزها جملة، لكن “كلب بلدي مدرب” ارتكنت إلى جمل موجزة تصف الحال والمآل، “في سياق العادة السرية التي يمارسها الأزواج المحبطون”، “إعلام سوق يدر على أمريكا 100 مليار دولار سنويا”، “ولكنها بدت لي ككل شيء في المدينة: شبه شيء”.
تفاصيل في “الشارع”
في نهاية الرواية تلوح إجابة السؤال الذي لازمني منذ قراءتي لعنوانها، بدأت الرواية في نقطة في منتصف شارع وانتهت في نقطة في منتصف شارع، حسبما أشار صديق لي، ما يدل على “الكلب البلدي” صار مصطلحا له مفهوم أدبي متكامل، فهو
من تبدأ قصته في الشارع، ويمارس تفاصيله في الشارع، ويضاهي الكلاب تشردا وبؤسا وتمردا وعدوانية، فهو الخارج حتما عن قانون الأسرة ولوائحها، المفضل دائما للانطلاق، فمن الطبيعي أن يوحي له موسم التزاوج بتدريبات التحرش، والتجمع التاريخي حول جهاز فيديو، (غالبا ماركة قاريونس)، بداخله فيلم جنسي “رخيص”، تضطره النسخة الرديئة إلى اللجوء مرارا إلى “مسح الهد”، ومن الطبيعي أيضا أن يلجأ هذا الجيل إلى العنف العشوائي بديلا عن لغة الحوار وبديلا كذلك عن الحلول العملية، كما انتهت الرواية بمطاردة صنعها خيال بدأ الرواية بممارسة الجنس في الشارع.